عقيدة ثابتة
أكاد أسارع إلى الادعاء بأن قضية فلسطين لم تعش حالة من البؤس والضياع كتلك التي عاشتها خلال القرن المنصرم ؛ فقد منيت هذه القصية بعدة نكسات ونكبات ، شاب لها الصبي قبل شبابه وأذهلت المرضعات عن مراضعهن ، وأصبح الحليم فيها حيرانا والناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد.
وأخذت مراكز الأبحاث ومنابر السياسة والإعلام والأنظمة الرسمية والمنظمات الشعبية والحركات السياسية تبحث عن الأسباب وتشخص الداء وتتحدث عن الدواء ، والقضية تئن أنين المستغيث الذي لا ناصر له .
وإذا ما سألنا عن سر تلك الانتكاسات والهزائم، فإن إجابة واحدة تكشف لنا سر ذلك كله وتخرجنا من بحر الوهم وعالم الغم . إنها العقيدة التي تخلت عنها الجيوش والأنظمة ، فهانت على أعدائها وأصابها الوهن وتداعت عليا الأكلة من كل جانب.
ونستذكر هنا مقولة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يتسلم مفاتيح بيت المقدس : ( نحن قوم أعزنا الله بالإسلام ،فأن ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله )
كلمات خالدة ، نطق بها هذا العملاق وحفظها لنا التاريخ ؛ لتبقى نبراسا ونورا يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويؤكد هذا المعنى ويدل عليه قول الله سبحانه وتعالى (إن الدين عند الله الإسلام,ما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بينهم ومن يكفر بآيات الله فأن
الله سريع الحساب . فأن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أتوا الكتاب والأمين ءأسلمتم فأن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد ).
وحديثنا عن الدين في هذا السياق ، يقودنا إلى الاستخلاص التالي : أننا عندما نتحدث عن الدين والعقيدة في سياق الصراع بين اليهودية والإسلام لا نعني ذلك أن الحرب القائمة حرب دينية بين التوراة والقرآن كما يتوهم البعض ، حاشا لله ،فهذا أبعد ما يكون عن فهمنا ؛لأن الدين كل لا يتجزأ ولأنه كله من عند الله كما بينت الآيات السابقة ،فإبراهيم وموسى وعيسى ويعقوب وكل الأنبياء جاءوا بالحنفية والإسلام يقول الله سبحانه وتعالى عن إبراهيم: (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي )و يقول أيضا (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين ) .
ويحدثنا القرآن عن منهج إبراهيم عليه السلام في الدعوة ، وحثه لأبنائه على اتباع الإسلام والموت عليه ; وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل : ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ) ( ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن أمتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا إنك أنت التواب الرحيم) (ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب : يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ).
وقد وقع أصحاب الاتجاه العلماني في وهم كبير ومغالطة عظيمة حينما ضربوا صفحا عن التوجيهات القرآنية وآثروا النزوع إلى المنهج الغربي في الدراسة والتحليل ظنا منهم بأن هذا المنهج (بنظرته العلمية ومنهجه الموضوعي سيعيد لهم حقهم المسلوب ويضمن لهم أمانة الطريق وواقعية الاستدلال، وهم لا يدرون أنهم بانتهاجهم هذا النهج قد وقعوا في أسر التصورات التلمودية والتبريرات الكنسية المزورة ؛ لأن الكتاب الغربيين حينما أرادوا أن يؤرخوا للماضي رجعوا إلى مصدر واحد فجعلوه حجة لهم ،هذا المصدر هو الكتاب المقدس أو ما يعرف بالكتاب القديم0
لذا ، فإذا كان الدرس التاريخي الغربي قد اعتمد على نص ديني طاله كثير من الزيف والتحريف؛ فأن موضوعية البحث تقتضي الرجوع إلى حقائق التنزيل لكي لا نقع تحت وهم أساطير الدعاية الإسرائيلية .
نحن بحاجة إلى عقيدة راسخة قوية سليمة ، ومنهج قرآني فريد للوقوف أمام هذاالطغيان الفكري الغربي المشوه للحقائق ، خصوصا بعد نجاح الصهيونية الخبيثة الحديثة في إحداث اختراقات عميقة في الفكر الأوروبي المسيحي ، ويبدو ذلك من خلال هذا الانسجام العجيب بين المسيحية الغربية والصهيونية الخبيثة ،
ويبدو هذا واضحا كذلك من خلال توسع المعجم الدلالي المسيحي ، وكثرة المصطلحات الوافدة عليه من التفسيرات التلمودية للتاريخ والحياة وتراجع التعصب المسيحي لصالح الأمة اليهودية.
فشعب الله المختار وشعب الرب الجديد والكهنوت الملوكي ومدينة الرب المقدسة مصطلحات رافدة على قواميس الفكر الأوروبي من إبداعات التضليل الصهيوني، بل إن جزءا كبيرا من تبريرات السلسة الأوروبيين للحملات الاستعمارية الموجهة صوب منطقة الشرق الوسط تعتمد على تلك القراءات الخاطئة لهذا الفكر الديني المشوه ، وإليك بعض تلك الأدلة المعينة على فهم ذلك: ففي عام 1965 يصدر الفاتيكان اعترافا مفاده (مع أن سلطات يهودية قد ساقت مع أنصارها المسيح إلى الموت مع العلم أن جميع اليهود الذين كانوا أحياء في عصر المسيح مدانون |إلا أننا لا نستطيع أن نحمل اليهود هذا العصر وزرهم .
ولا يجب أن ننظر إلى اليهود على أنهم منبوذون من الرب ) ثم يتقدم الفكرالمسيحي المهادن والمتواطئ إلى حد الاعتراف من قبل الفتكان بأن اليهود مبرؤون من دم المسيح عليه السلام ،لكي تبدو هذه المصالحة التاريخية العقائدية بين اليهودية والمسيحية شكل من أشكال التطور الاستعماري الذي شكل في نهايات القرن الماضي ما عاد يعرف الحرب العالمية ضد الإرهاب أو الوقوف جنبا إلى جنب ضد دعاة اللاسامية ، ويعنون بذلك المسلمين على وجه التحديد. وشبيه بهذا الاستدلال ما وردعلى لسان ريغن إذقال له الصحفي :لماذا تقف أمريكا من العرب هذا الموقف؟ ولماذا تؤيد إسرائيل هذا التأييد المطلق فأجاب إجابة سريعة ومختصرة :لا تنسى بأننا صليبيون .)
ولعل هذا ما كرره بوش الصغير في خطابه الشهير بعيد أحداث نيويورك وواشنطن حينما أشارإلى الحرب المقدسة والعادلةوالصليبية ضد الأصولية والمتطرفة )وليس بعيدا عن هذا التصور يمكن لنا أن نفهم الدور السياسي الأوروبي المتواطئ مع السياسة الإسرائيلية منذ بلفور حتى مدريد واسلو وما بعدهما ، بل أزعم أن الفكر الكنسي الحديث قد انتقل نقلة نوعية في التواطؤ مع اليهودية من خلال نظرته إلى الكنيسة الشرقية وقد اتضح ذلك من خلال نظرته إلى حصار كنيسة المهد وهدم ثاني أقدس كنيسة في العالم ، وهي كنيسة بربرة في بلدة عابود بالضفة الغربية.
إذن نحن بحاجة إلى هذه العقيدة الراسخة لنرد على كافة الادعاءات والأباطيل الزائفة؛
فلإن كان هذا التاريخ قد بدأ مع إبراهيم عليه السلام الذي نزل ضيفا على اليبوسيين أصحاب الأرض الأصليين مهاجرا بأمر من الله إلى الأرض المقدسة فإن النص القرآني يرد على تلك المزاعم الإسرائيلية ، وتصبح عبارات الشعب المختار والأرض الموعودة مخلفات زائغة كتلك الملاحم الأسطورية القديمة التي لا يعترف بها الدرس التاريخي.فإبراهيم كما يحدثنا القرآن لم يذهب إلى فلسطين مستعمرا أو موعودا بل ذهب لاجئا طريدا وقد أحسن أهل فلسطين استقباله وضيافته، قال تعالى: ( ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فبه للعالمين )
فالبركة ليست خاصة بقوم كما يدعي المبطلون والأرض في ظلال النص القرآني سواء أكانت الألف واللام فيها للعهد أم للجنس مرهونة بفكرة الاستخلاف الرباني وفي هذا يقول الق سبحانه : ( ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) ويقول أيضا ( وعد الله الذين أمنوا ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ) ولكن بشرط ارتضاه لعباده ( يعبدونني ولا يشركون بي شيئا ) .
وبناءا على هذه القاعدة فشل العبرانيون أتباع موسى عليه السلام في تحقيق نصر على الوثنيين المستعمرين للأرض المقدسة وما كان ذلك إلا لعدم استجابتهم لشروط هذه القاعدة ومخالفتهم لأمر نبيهم ( قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده و العاقبة للمتقين،قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعلمون)،ولكن سرعان ما يتحول هذا النصر إلى هزيمة مؤلمة بعد عبادة العجل ونكرانهم منهج الحق(إن الذين اتخذوا العجل سينا لهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين)
أما نهايتهم السياسية فتتمثل في قوله تعالى(فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين،وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسو مهم سوء العذاب إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم، وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك لعلهم يرجعون. )
وما حل قديما بعصاة بني إسرائيل حل حديثا بعصاة هذه الأمة حينما تراجعت أمام عدوها وفشلت في تحقيق أي إنجاز يذكر على الصعيد القتالي خلال قرن مضى من الزمن ، فلم تستطع الاشتراكية الناصرية أو البعثية العلوية أن تأتي بالحلم العربي المنشود بل كانت عبئا ثقيلا على حركة التحرير الجهادية من خلال مسح ذاكرة الشعوب وإجلائها عن مدرسة الجهاد المحمدية
ففي 23|2|48 يبعث القائد إسماعيل تقرير مفصلا عن اللجنة العسكرية بدمشق قائلا :أن قوات المتطوعين لا يمكن أن يحققوا نصرا في هذا الصراع الذي يحتاج إلى قوات نظامية متمرسة ،وتبدأ المعركة من طرف واحد فتبدأ إسرائيل بمجازرها المتتالية من مجزرة إلى مجزرة فتقترف مجزرة صفد في 19|1|1948 ثم دير ياسين في 9|4|48 ويبدأ الشعب الفلسطيني بالعويل والصراخ فيأتي الجواب من اللجنة العسكرية بأن القوات النظامية لن تدخل المعركة قبل 15|5|48 لينتهي الفصل الأول من مسرحية انهزام الفكرالقومي مع الغرب المنسجم مع نبوءة الحديث النبوي الشريف ، (لتتبعن سنن من قبلكم اليهود والنصارى حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلتموه معهم) وهكذا تبدو هذه الصورة الأولية في مسلسل التخاذل والتهاون الذي جلبه لنا الفكر العلماني المتحرر رضيع الصهيونية والإمبريالية .
ثم تبدأ فصول مرحلة جديدة يغيب فيهاأبناء الحركة الإسلامية في السجون ويتهموا بالخيانة والرجعية ويرتفع خيار ا الثورية الاشتراكية والقومية العربية لاسترداد الأراضي المغتصبة عام 48، ولا تنتهي هذه المرحلة إلا بحدوث الفاجعة الأليمة عام 67 ليعلن النظام العربي رسميا عن فشل المناهج الكفاحية في حل الصراع الدائم بين العرب وأعدائهم ،
لتبدأ المرحلة الثالثة من مراحل هذا الصراع التي يشرع فيها العرب بالبحث عن حلول سلمية كخيارات استراتيجية ووحيدة لإنهاء هذا الصراع وتترجم هذه الجهود من خلال قمم ومبادرات ومعاهدات ولقاءات ، تبدأ في (الرباط) عام 1974 وتترجم في (كام ديفد) الأولى بين مصر وإسرائيل عام1978 وتبرز كمبادرة عربية للجانب الفلسطيني يقدمها فهد في أواسط الثمانينات وتترجم كمؤتمر دولي في أوائل التسعينات من خلال مؤتمر مدريد وتتوج بمعاهدة سلام سرية في أوسلو لتدخل القضية من خلاله إلى نفق مظلم وتراكمات مكلفة .
إذا نحن بحاجة إلى عقيدة قويمة وراسخة لرأب هذا الصدع الممتد ومحو هذه الظلمة المشينة ولتحقيق منهج الله في النصر والتمكين ( إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ) (ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) نحن بحاجة إلى عقيدة راسخة كتلك التي تمتعت بها الحركة الإسلامية الأولى في مجابهة الباطل وأهله ،فثبتت في مكة وانتصرت في بدر وفرحت بالفتح المبين في مكة فحققت من سنة الله في عباده المجاهدين ( وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة ) ونحن بحاجة إلى هذه العقيدة في عصر عظمت فيه الفجوة بيننا وبين عدونا، وتضاءلت فرص النصر من خلال القوة المالية والعدة القتالية .
نحن بحاجة إلى هذه العقيدة بعد أن قلب لنا الجميع ظهر المجن ورمتنا العرب والعجم عن قوس وحدة وباتت الشرعيةالدولية ومنظمات حقوق الإنسان والأمم المتحدة مسميات مفرغة من محتوياتها ولا تخدم إلا الغاصب المحتل الكاتب: رمضان عمـــــر التاريخ: 01/01/2007