أبو جعفر: قسورة يمني زأر مُنتصِفاً لحرائر الرافدين! |
|
أبو جعفر: قسورة يمني زأر مُنتصِفاً لحرائر الرافدين!
12:03
حسين المعاضيدي
وأنا أُقلّب في صفحات الإنترنت وجدت رابطاً لعملية استشهادية ضد فلول الكفر والطغيان، مغول العصر، غزاة الديار، الأميركان الأنجاس، وشدني في ذلك الرابط عنوانه الذي كان يقول (استشهادي يضحك من شخص يعرض عليه شراء سيارته المفخخة) فدفعني الفضول، وحب الاستطلاع، والتلذذ ببطولات المجاهدين إلى فتح الرابط، الذي ما أن نقرت عليه حتى صدمتني المفاجأة، بل صعقتني وهالني ما كان فيها، وما عدت أدري أأضحك لكلمات المجاهد، الذي كان ينوي الدخول بسيارته المفخخة وجسده الطاهر وسط جموع الكفر والإلحاد، الذين احتلوا أرض الإسلام، أم أحزن، وأبكي، وأذرف الدمع لمعرفتي بهوية الاستشهادي الذي كانت تجمعني به علاقة متينة جداً، فامتزجت الحالتين عندي بين سعادة وفرح غامر، وحزن بالغ ودموع!
شاهدته في التصوير المرئي وهو يستعد للانقضاض على إحدى قواعد المحتلين في مدينة (سامراء) كالصقر على فريسته ويرد على من يمازحه في أن كان يرغب في بيع سيارته المفخخة قائلاً له: (أيوجد هناك من يبيع جنة)، لقد كان هذا الفارس المغوار صديقاً، وأخاً لي لم تلده أمي، بل كان أكثر من تأثرت فيه بحياتي الماضية، وبشخصيته الجهادية وهو يبيع الدنيا الفانية، مستبدلاً إياها بآخرة باقية، خالدة، خلود عرش الرحمن.
اعتزلت الناس بعد مشاهدتي لأقرب الناس إلى نفسي وهو يندس في جموع الظلم والقتل والاستبداد، ليعلن عن ثأر السماء وعدالتها وهو يقتص للأطفال والنساء، لليتامى والأرامل، الذين نُحر مستقبلهم وحياة أحباؤهم على يد الغزاة الأميركان، ومن لف لفهم ووقف في خندقهم أياً كانت هويته، وأخذت اتامل في نهايته السعيدة، كاسم تلك البلاد التي ولد فيها، اليمن السعيد، واختياره لتلك النهاية، التي لا يقدم عليها إلا من ثقلت كفة إيمانه، وعمق تفكيره، وساءه حال وهوان أمة المليار وثلاثة أرباع المليار، التي تخضع من غربها إلى أقصى شرقها تحت وطأة وظلم الاستعمار، أو من ينوب عنه من الحكام والطغاة والجبابرة والقياصرة والأكاسرة، نهاية طبيعية كانت لمن يشاهد بعينيه كل يوم، وعبر شاشات التلفاز، كيف أن جموع المسلمين يسحقون تحت جنازير المدرعات، وبرصاصات خنازير القاذورات من اميركان ومتواطئين وغيرهم..
لقد قدم هذا الصنديد نفسه وروحه قرباناً لله ونصرة للمظلومين في بقاع المعمورة، شمالها وجنوبها، شرقها وغربها، منتصفاً لصرخة مسكين مظلوم ناله نصيب من الحقد والكره الصليبي واليهودي والفارسي على أمة الإسلام..
قررت أن اكتب عن سيرته الجهادية، التي علمت بعضاً منها من خلال رفقتي له في معتقلات الظلم في أبو غريب وبوكا قبل أن نفترق من هناك، فقد عدت أنا بعد إطلاق سراحي إلى عالم الصحافة الذي كثر المتساقطون من عليه في خانة العمالة والمصالح الدنيوية، فيما هو، وبعد سنوات قضاها من بعدي في المعتقلات، أختار ليكون رفيقاً للمصطفى محمد، صلى الله عليه وسلم، في جنان الخلد أو هكذا نحسبه، والله حسيبه.
مسكت القلم مرة، واثنتين، وثلاثة لأكتب عن سيرة هذا المجاهد، الذي حمل هم أمته صغيراً، واستل سيفه، واعتلى صهوة فرسه للذود عن شرف الحرائر، والثأر لعرض مسلم منتهك، ولدعوة مظلوم، ودمعة ثكلى وأنين أسير، وأمل يتيم يُتم باكراً على يد أعداء الله، لكني وكلما أمسكت القلم لأكتب عن هذا الجبل الأشم، أجد أن كل ما سأكتبه لن يكون سوى نُزراً يسيراً مما وجدته فيه، وكيف لي أن أفي هذا المقدام المغوار حقه، بعدما قدم روحه، ودمه، ونحره دون أعراض المسلمين، وهيهات لي أن أفيه!!
على أرض اليمن السعيد ولد، تلك الأرض التي دائماً ما أشاد النبي، صلى الله عليه وسلم، بأهلها.. حمل أسماء شتى، بينها (علي)، فكان نعم الحامل للاسم، وهو يصول على الطغاة كصولات الكرار، يزأر في الوغى كقسورة لا يهاب الموت أو المنية، وتارة يسمي نفسه (جهاد) أو (جها) كما يحب أن يناديه بعض المقربين منه، فيما كانت أحب الأسماء إليه أن يكنيه أخوته في الجهاد وأحبته بـ(أبي جعفر اليمني)، فقد كان متأثراً إلى درجة كبيرة بالصحابي الجليل جعفر الطيار، رضوان الله تعالى عليه..
هو يمني المولد، مكي المسكن، فقد عاش في بلاد الحرمين وقضى فيها سنوات شبابه، التي توقفت بتوقف نبض الحياة في قلبه عند الثلاثين عاماً، مفارقاً حياة عاشها بصعابها ومرارتها وغطرستها، والتي خلت من أي لذة، اللهم إلا لذة الجهاد..
هرع تاركاً أهله وداره، متجهاً إلى بلاد الرافدين، لما رأى تكالب الصلبان عليهم، ليؤكد لُحمة هذه الأمة، ووحدة المصير الذي يجمعها، والذي يحاول المحتلون، ومن خلفهم الحكام تقطيع أواصره وأوصاله، باتفاقيات وحدود (سايكس-بيكو) الوهمية، لا أدامها الله..
كان، تقبله الله، أسمر البشرة، نحيل الجسد، قصير القامة، خفيف الظل، ضحوك السن، كثير الممازحة حتى في آخر لحظات حياته، صحيح العقيدة، سليم المنهج، قوي الشكيمة، أسد مغوار لا يشق له غبار، زاده الصبر في المحن، تواق لبلوغ رضوان ربه وجنات تجري من تحتها الأنهار، لا يُمل جلوسه، وسرعان ما يُفتقد غيابه، فهو الحاضر الدائم، وأن غاب، وهو السبّاقُ إلى الفِعال، حافظاً لكتاب الله، يحب التخفيف عن إخوته في المعتقل، ومواظباً على تعليم الكثير من المعتقلين ما لا يعلمونه من أمور دينهم.
رفض الجلوس في داره يوم تكالبت الأمم على أمة الإسلام فكفر بحدود (سايكس-بيكو)، وكفر بجبروت الحكام، وكفر بكل ما يمنعه عن نصرة إخوانه في العراق، فترك الأم والأب وهجر الأخوان، وباعدت المسافات بينه وبين تلك الأرض، التي ولد وترعرع على ثراها سنوات عمره الثلاثين، من أجل أن يرفع لواء التوحيد، ويجعل من كلمة الله هي العليا، ليلقى الله على ما يرضيه، ويحسن خاتمته، واقفاً بوجه جموع الطغاة الغزاة، والمتحالفين معهم من أذنابهم وخُدامهم، الذين جاءوا بهم على ظهر دباباتهم، أو ممن فتحوا مضايفهم وبيوتاتهم لكلاب الصليب، من أحذية المحتلين، كالصحوات وغيرهم، الذين أصبحوا في وقت من الأوقات طوق نجاة للمحتلين أخزاهم الله، فتنفس غيرة على أبناء دينه في العراق، وزفر قيحاً لحال المسلمين الذين تثاقلوا عن الجهاد، فقوي أيمانه، وعزمت همته، وقرر الهجرة إلى الله ورسوله، في أصدق عملية بيع وشراء بين العبد وربه، باع نفسه رخيصة لله، بعدما وعده رب العباد بجنان وأفنان، وحور حسان، وما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب إنسان، فانضم إلى مجاهدي العراق ليؤكد اللُحمة الإسلامية، مبرهناً وحدة الانتماء والعقيدة والفكر، ووحدة هذه الأمة التي تشرذمت، وتمزقت على أيدي المستعمرين، بمباركة الحكام، الذين باتوا أشد على أبناء هذه الأمة من المحتلين أنفسهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ذهب إلى العراق مجاهداً بماله ونفسه ودمائه الزكية التي روت أرض الأنبياء والمرسلين، بلد إبراهيم الخليل، وذا النون، بلد المعتصم، وهارون الرشيد، بلد صلاح الدين، بلد الشهداء النجباء الأبطال، الذين روت دمائهم الزكية أرض الطُهر التي استباحها عُباد الصليب.
سلك طريقاً لا يُبكى عليه، ودخل ساحة لا يخرج منها العبد إلا بجبال من الرحمة والمغفرة، أو بشهادة تعدل الدنيا وما فيها.. سلك طريق أرض الفراتين، رافعاً راية التوحيد والجهاد قبالة راية الكفر، التي أجتمع حاملوها من كل حدب وصوب ليغزو دار الخلافة ومصر من أمصار الإسلام، فعلت همته، وأنتفض كالصقر، فقطع المسافات البعيدة من مكة المكرمة حيث نشأته منذ نعومة أظفاره، حتى وصل أرض الجهاد، ليذب ويذود عن أبناء دينه وأبناء جلدته، فقد آلمه مآسي المسلمين في أبوغريب، فنهر نصرة للأخوات المغتصبات، فقدر الله أن يصبح هو نفسه أحد اسارى أبي غريب، حيث التقيته قدراً هناك، وتعرفت عليه، وتوطدت علاقتي به في قسم الثقيلة بذلك المعتقل حيث جمعنا سوية ما يطلق عليه المحتلون (كمب شارلي) وهو من أكثر المعتقلات والمخيمات تحصيناً..
شدني دون زملائه، فقد كان أكثرنا همة ونحن نقوم إلى الصلاة، وكان في ليالي الشتاء القارصة البرد التي عشناها في أبوغريب ينهض من فراشه بعد قليل من نومنا ليتوضأ كي يقيم الليل حتى يحين موعد صلاة الفجر ليوقضنا واحداً بعد الآخر، فيما يرفع هو آذان الفجر ما لم يسبقه أسير آخر في جزء ثان من المعتقل.
كان أكثرنا مرحاً وسروراً، والابتسامة لا تكاد تفارق محياه، أعتقل مع عدد آخر من إخوة الجهاد، هم تكملة لمجموعة جهادية كانت تتحصن في بيت بأطراف مدينة الرمادي، وتحديداً في منطقة (الخمسة كيلو) بعدما حاصرتهم قوات الاحتلال فيه، حيث جرت على أثر ذلك معركة شرسة استمرت لساعات، اضطرت بعدها القوات المحتلة للانسحاب وقصف تلك الدار بصواريخ الطائرات والقنابل، فقتل جميع من كان فيه، إلا ثلة صغيرة نجت، ويا ليتها لم تنجُ، كما كان (أبي جعفر) يردد على الدوام، فقد عز في نفسه أن يفارق أحبته وإخوته في الجهاد، ممن صعدت أرواحهم إلى بارئها ملتحقة بالرفيق الأعلى، فيما كتب الله له، ومن معه، النجاة، حيث تم أسرهم من قبل قوات الكفر والإلحاد المحتلة فتأثر لذلك كثيراً، وقد كانت تلك الحادثة الشهيرة في مدينة (الرمادي) قصة يتداولها الصغار والكبار، النساء والرجال، فقد أخذت تفوح من طابوقات ولبنات تلك الدار، التي قتلت فيها تلك الزمرة المجاهدة، رائحة لم يشموا مثلها أبداً، حتى أنها فاقت رائحة المسك والزعفران، وكانت تلك من بشائر السعادة لمن بقي من بعدهم من رفاقهم المجاهدين.
لاقى في تلك المعتقلات البشعة من العذاب ما لاقى، وبعد أشهر طوال قضيناها سوية في سجن أبو غريب تم نقلنا إلى معتقل (بوكا) في أقصى جنوب العراق، ذلك القبر الدنيوي الذي كان اليوم الواحد فيه في حساباتنا سنيناً ودهوراً طوال، وحينما كتب الله لي الإفراج هنئني (أبو جعفر) على إطلاق السراح ونيل الحرية داعياً لي بالثبات، طالباً مني أن لا ننساه بالدعاء له بالثبات، وان يعجل الله له في الخروج والعودة إلى سوح الجهاد، مؤكداً لي أن الذي جمعنا بغير ميعاد لقادر أن يجمعنا ثانية، أن لم يكن في هذه الدنيا فعند مليك مقتدر، فقال ممازحاً لي (اطمئن، فلربما يطلقون سراحك في بغداد وتجدني أمامك هناك، وما ذلك على الله بعسير)، فقد كان واثقاً ومؤمناً بأن من خرج من داره ليجعل كلمة الله هي العليا لن يخذله الله، فأما أن يرزقه الشهادة، أو تكتحل عينيه برؤية النصر، ومضت الأيام وتوالت السنون و(أبو جعفر) يتنقل من سجن لآخر، ومن معتقل إلى آخر، ومن قبر دنيوي لقبر ثان، حتى استقر في سجن (بادوش) في شمال العراق، حيث يسّر الله له أن يخرج من هناك بأمر ألهي رباني، لا بأمر المحتلين وأذنابهم وكلابهم، حيث أغار المجاهدون على سجن (بادوش)، وبصولة عزوم تمكن حملة الصارم البتار، جند الله في ارض الأمجاد، من اقتحام أسوار السجن وقتل حراسه وفك أسر الكثير من الأسرى والمعتقلين، الذين انضموا إلى إخوة الجهاد، فكانوا رافداً لهم في جهادهم، وما خاب ظن إخوتهم بهم، بل حتى من اعتقل وهو خالي الوفاض، أنضم إلى ركب الجهاد، ومن بين هؤلاء الذين تحرروا (أبو جعفر اليمني) الذي افلت من المحتلين بسواعد إخوته مجاهدي بلاد الرافدين، فخرج وهو يتلهف للنكاية بأعداء الله، ولتبدأ معه رحلة جهادية أخرى، بعدما رفض العودة إلى بلده، والى أحضان أمه، رحلة أخرى كللها بعرس جهادي كبير، ترك بصمته على كل من رآه وشاهده وعرفه وأحبه في الله، ولم تكن العملية الاستشهادية في ذهنه، لكنه تاق لبذل روحه، وسفك دمه، أرضاء لربه وطلباً للجنان، فكانت تلك العملية التي قدم فيها روحه وجسده ودمه قرباناً لرب العالمين، فبعد أن تخرج من مدرسة سيدنا يوسف (عليه السلام)، الذي أبدله الله له سنوات سجنه خير ورضوان كبير، خرج (أبو جعفر) إلى ساحات الوغى والنزال، قدمه في الثرى وهامته في الثريا، فبعدما خرج قبل ذلك من بيته مهاجراً في سبيل الله، مجاهداً لإعلاء راية الحق، خرج هذه المرة من الأسر إلى السحر الحلال، جهاد ما بعده جهاد..
كانت أمنيته على الدوام أن تكتحل عيناه برؤية والدته، وأن يسعد محياه ببسمتها، لكنه موقن أن ما باعه لله فلن يضيعه الله، وأن الملتقى معها الجنة، بإذن الواحد الأحد، داعياً إياها أن تدعو لنفسها بالثبات، أما هو فقد كان يرى في سعيه للجهاد تأخراً، بعدما سبقته الحياة فلم يجد حياة إلا حياة الجهاد.
تحدث في آخر لحظات حياته بعدما ألقى وصيته، وبندقيته بيده، وكفنه بجعبته، مقبلاً إلى الآخرة، مستدبراً الدنيا، قائلاً أن شعوره لا يوصف وهو يبيع جسده وروحه إلى الله، سائلاً إياه سبحانه أن يأخذ من دمه حتى يرضى، وأن لا يجعل له قبر يضمه، ثم قال مخاطباً عباد الصليب وكلابهم وأذنابهم، انتظروا قليلاً إنّا قادمون إليكم، والكلام ما ترون لا ما تسمعون.
كان شديد التعلق بأمه، ويكن لها من الحب ما لم أرَ من قبل، حتى أنه وفي أحد الأيام داهمته حمى شديدة ونحن في المعتقل، فدخل في غيبوبة من شدة الألم، فحاولت التخفيف عنه من خلال عمل كمادات له على جبينه، وعلى يديه، وعلى قدميه اللتين كثيراً ما سار بهما دون أن ينتعل حذاء لأنه كان يريد لهما أن تغبرا، فهو كان يدرك حينها أنه في أقدس بقاع الكون، كيف لا وهي بقعة جهاد في سبيل الله، فكان حينها يهذي من شدة الألم، وارتفاع الحرارة، فوجدته تارة يناجي ربه، وتارة يخاطب أمه ويتمتم بشوقه لها وأمنيته في رؤيتها، وهو ما جعله يترك في وصيته حيزاً كبيرا لأمه، فبعدما أستعد للإثخان بأعداء الله، وتفقد سيارته المحملة بأطنان من المتفجرات، تبسم، مدركاً أنه في طريقه إلى العلياء، لكن دمعات ثلاث طفرن حينها من عينيه، فراح يمسحهن بـ(يشماغ) جهاده، دموع ولا أطهر، دمعة ذرفها لأنه يغادر إلى الجنان دون أن يرى من كان يتحسر على رؤيتها، أمه الغالية، ولا يمنعه من رؤيتها إلا حبه لله ولرسوله ولدينه، ودمعة زفرها على فرقة الأحباب، ودمعة من خشية الله بعدما كان يرى في نفسه تقصيراً في جنب الله، بعدما تأخر على الجهاد كثيراً كما كان يرى، لكنها أبداً لم تكن دموع الندم، وكيف للندم أن يمر من واديه؟! فهو وإخوانه المجاهدون ما هبت عواصفهم إلا لتدك صروح المحتلين وأذنابهم، فأمطروهم حمماً من البراكين وجمراً، وأذاقوهم علقماً وغضباً، فآن لأمة الإسلام أن تعود، وكيف لا تعود وهي تملك رجالاً كـ(أبي جعفر اليمني) يهزون أركان الوجود..
هؤلاء الذين نقشوا على وجه السنين فكان منهم (أبو جعفر اليمني) الذي سار كالأسد الجريح، تسابق إطارات مركبته الريح وهو يقترب ويدنو من أنجاس الروم وكلابهم وأذنابهم وصحواتهم الملعونة، حتى حط رحله في ربوعهم، ليجعل من جسده، وسيارته المفخخة، جحيماً على رؤوسهم لا يطاق، فحول مقرهم إلى هشيماً تذروه رياح سامراء، فقتل منهم الكثير الكثير..
فلله دره لم يأنس بدنيانا، ولم يسر خلف زيف الطيف خذلاناً، ولم يعفر جبين العز مبتذلاً، بل سار على نهج المصطفى، صلوات ربي وسلامه عليه، بعدما حاول إيصال رسالة للحكام في قصورهم، وللمختبئين في جحورهم، أن هذه أمتكم أمة واحدة، كالبنيان المرصوص، وكالجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، فمتى تدركون إنكم بمساندتكم للمحتلين أنما تبيعون دينكم بعرض من الدنيا، فاعلموا أنكم مهما اعتقلتم، ومهما ملئتم السجون والزنازين، ومهما قتلتم وأسرفتم في القتل، ومهما فتكتم ونكلتم يا أعداء الشعوب، فمصيركم كمصير من نصبوكم على كراسيكم المهترئة المنخورة، إلى حيث مزابل التاريخ ما دمتم في نهج الغي والبغي سائرين، ولشريعة الله محاربين، ولطريق الجهاد قاطعين، ولتمويل جند الله مانعين، ولنصرة إخوانكم متجاهلين، وللمحتلين مساندين.
أما إخوته ورفقاء جهاده فانشدوا له وهو يغادرهم مُستبقاً إياهم إلى نعيم الله قائلين (لا تحزن على سفر فقد زف إلى الحوراء عاشقها، وبات في خدرها المأنوس رياناً، وغنت الحور لحن الحب مطربة، فعاد يهتز في عطفين مؤتلقاً، يميد بين بنات الحسن نشواناً، هذا الذي كان يرجوه وينشده، هنا له وحباه الله رضوانا، بدمعك لا تحزن على سفر، قد حق على جنبات العزم مرثاه، فالدمع ليس على الأبطال نسبله، ولا على من سرت للمجد رجلاه، ولا على من علت في الزحف صيحته، وخط بالسيف وسط الحرب مثواه، الدمع أحرى بمن تغريه لذته، ويلعق الذل لهثاً خلف دنياه..).
وحينما اكتب عنك يا (أبا جعفر) فقلبي يتفطر عليك، وعلى أكباد أمتنا الذين يغادروننا في كل يوم ملتحقين بقوافل النجاة قوافل الشهداء، وأنا على فراقهم لمحزونون، لكني أرى من حقك على أخيك، وعلى أحبائك في بلد الرشيد، أن يخلدوا سيرتك، وسيرة غيرك من أبطال جهاد أمتنا، فذكراكم هو من ينفث فينا الروح، ويغرس بداخلنا بذور الأمل في مستقبل مشرق لهذه الأمة، التي تُبنى اليوم بأشلاء الشهداء وتروى بدمائهم، أمة بات تكالب المحتلين والغزاة عليها أظهر من الشمس في كبد السماء، من صليبين، إلى يهود، إلى فرس، أخزاهم الله جميعاً..
اكتب عنك، وعن غيرك من فرسان الشهادة، لتكونوا للأجيال القادمة قناديل منيرة، ومشاعل مضيئة، وفوانيس ترشدهم إلى حيث المجد والنور والضياء في طريق مجهول، محفوف بالمخاطر، معبد بالظلمات يحاول رسمه لنا أعداء الحياة، وأعداء الإنسانية، وأعداء الإسلام، بل أعداء الله، لنبشر من يأتي من بعدنا أن الإسلام بدأ يعلو ويرتفع، وبدأت السحابة تنقشع، وبدأ الكفر ينحسر ويندحر وينفضح، بعدما اجتمع علينا الكفر بكل ملله ونحله، حيث تيقن المسلمون بصدق الهدف وصحة الطريق، فبتنا على يقين أن الله لن يكسر قلوب الموحدين المستضعفين، ولن يشمت فينا القوم الظالمين، بحسب وصف أحد قادة الجهاد من شهداء هذه الأمة.
رحل (أبو جعفر) وترك في رفاقه إصراراً وعهداً أقوى على المضي قدماً في طريق الجهاد..
رحل (قسورة اليمن) الذي هزم عدوه بابتسامته الرائعة التي سبقت انطلاقته إلى حيث الثأر من كلاب الروم، وعبدة النار وأعوانهم..
رحل الليث الضرغام الذي شهدت له زنزانات أبي غريب، ورمال صحراء بوكا، وأسوار بادوش الشائكة على صبره، مثلما شهدت له الثغور وأسلحة الـ(آر بي جي) والـ(بي كي سي) على ما أحدثه من نكاية في صفوف الكفرة الفجرة.
رحل (أبو جعفر)، بعدما انضم لمن كتب تاريخاً ناصع البياض لهذه الأمة العظيمة بدمائهم الزكية وبأرواحهم الطاهرة، هؤلاء الذين كانوا، ولا يزالوا، حياة هذه الأمة المتجذرة المجد، وأملها الوحيد في العيش الرغيد السعيد، رموزنا المضيئة، وبقايا الحكايات التي سيرويها الأجداد للأحفاد..
رحل (أبو جعفر) دون أن يكتب الله لنا لقاء قبل مقتله، على أمل أن نلتقي في الدار الآخرة، لكن تظل كلماته ترن في أذني، يوم كتب الله لنا أن نفترق حينما كان يقول لي ( أيه يا حسين، لا تحزن، فلنا لقاء)، وأقول له اليوم، أيه (أبا جعفر)، ها أنت قد توعدت ووفيت، وهاجرت وانتقمت، وانتفضت وانتصفت، لتغادرنا إلى الجنان بإذن الله، أما نحن فنترحم عليك ثم نعود إلى سباتنا، ولا سلاح لنا غير الكلمات، لكن عزائنا أن قصصكم هي من تجمل مجالسنا، ولا تطيب إلا بذكراكم، فهنيئاً لك منازل الأكرمين، يا أبن اليمن السعيد وبلاد الحرمين، يا من تناثرت أشلاؤك نصرة لرب العالمين في بلاد الرافدين، فيا أيها البطل الذي فارقت أهلك في سكون، أرحل فسترفل باسماً تشدو بألحان المنون، يا من عشت ثابتاً على درب الرشاد، شجاع، مقدام، هادئ، همام، سنظل نردد ذكراك حتى تمامات الفؤاد.. فسلام عليك في الخالدين بإذن الله.
حسين المعاضيدي