رد الشيخ عبدالعزيز بن فوزان الفوزان .. |
|
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فهذا مقال لفضيلة الشيخ د. عبدالعزيز بن فوزان الفوزان، يرد فيه على ما كتب بعض الكتاب في بعض الصحف كالرياض والوطن وبعض مواقع الإنترنت كالساحة السياسية، حول فتواه في أسباب "كارثة تسونامي"،
والجدير بالذكر أن مقال الشيخ أرسل إلى أكثر الصحف المحلية، ومنها: جريدة الرياض التي كتب رئيس تحريرها مقالاً حول نفس الموضوع بعنوان: "الجواب غير الكافي"، ولكن لم تنشر جريدة الرياض هذا الرد؛ لذا جرى نشره، والله الموفق.
نص رد الشيخ د. عبدالعزيز الفوزان:
بسم الله الرحمن الرحيم
الجواب الكافي
كل من يتصدى للدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويسعى لإصلاح الناس، ويعارض أهواءهم المنحرفة، وإراداتهم الفاسدة، ويمنعهم من خرق سفينة المجتمع، وتهديم أمنه، وتعريضه لغضب الله ومقته، وأخذه وسطوته، فلابد أن يوطن نفسه على ما يصيبه من أذى هؤلاء الخلق وظلمهم، وطيشهم وجهلهم، فإن فيهم الجاهل الذي يظن الحق باطلاً، والباطل حقاً، ويفهم الكلام على غير وجهه، ويصدق عليه قول الشاعر:
وكم من عائب قولاً سليماً وآفته من الفهم السقيمِ
وفيهم الظالم الذي اتبع هواه، واستعبدته شهواته، وأخلد إلى الأرض، وآثر الدنيا على الآخرة، فحمله ذلك على بغض كل من يناصحه ويحذره من مغبة فعله السئ، بل ويعتبره عدواً له، ومتدخلاً في خصوصياته، وهو في الحقيقة محب ناصح، ومشفق صادق. ولهذا لما أمر الله تعالى بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمر بالصبر على ما يصيب العبد بسببها من الظلم والأذى. فقال سبحانه: (والعصر إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) فأقسم سبحانه بأن الناس كلهم في خسار وبوار إلا من اتصف بهذه الصفات الأربع، ومنها التواصي بالحق، والتواصي بالصبر على الأذى فيه.
وفي وصية لقمان لابنه يقول سبحانه وتعالى: (يابني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور) أي: أن الصبر على ما يصيب الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من الأمور التي عزمها الله وأوجبها على عباده، والتي لا يقوى عليها ويوفق لها إلا أولوا العزائم القوية، والهمم العلية.
وإذا كان رب العزة سبحانه لم يسلم من أذى الخلق وجهلهم، فهو وإياهم في نبأ عظيم، يخلق ويعبد غيره، ويرزق ويشكر سواه، خيره إليهم نازل، وشرهم إليه صاعد، يتحبب إليهم بالنعم، ويتبغضون إليه بالمعاصي. بل قال عنه أقوام: إن الله فقير ونحن أغنياء. وقالوا: يد الله مغلولة. وزعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه. وشبهه آخرون بخلقه، وكذبوا عليه فجعلوا له زوجة وولداً. وزعم بعضهم أن الملائكة بنات الله. وكذلك الحال مع أصفيائه وأوليائه، بل أفضل خلقه من رسله وأنبيائه، فقد أوذوا في الله ما لم يؤذ أحد، واتهموا بالجهل والكذب، والجنون والسفاهة، وتعاطي السحر والكهانة. كما قال تعالى: ( كذلك ما أرسلنا من قبلك من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون. أتواصوا به بل هم قوم طاغون)... فإذا كان هذا ما يحصل لرب العزة سبحانه، الذي له الخلق والأمر، وهو الحكيم الخبير، وهو بكل شئ عليم، وعلى كل شئ قدير، وهو كذلك ما حصل لرسله وأصفيائه، أكمل الناس خلقاً، وأصدقهم نصحاً، وأتقاهم لله تعالى سراً وجهراً، فكيف بمن سواهم من ورثتهم في حمل هذا الدين وتبليغه للعالمين؟!
فلا جرم أن أن يجدوا الظلم والأذى من الإنسان الذي خُلق ظلوما جهولا، وكيف يُطلب الإنصاف ممن الأصل فيه الظلم والجهل؟ وكيف يُنصف الخلق من لم ينصف الخالق؟!! ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم) رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة.
وقد تقاعس أقوام كثيرون عن القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي هو من أخص أوصاف المؤمنين، وسبب خيرية هذه الأمة، وسبيل فلاحها ونجاتها في الدنيا والآخرة، تركوا ذلك خوفاً من أذى الخلق، وإيثاراً للسلامة، ونسوا أن قعودهم عن القيام بهذه الشعيرة العظيمة هو عين الهلكة والندامة، وأن الساكت عن الحق شيطان أخرس، وأن العذاب إذا نزل عم الصالح والطالح، والكبير والصغير، كما قال ربنا سبحانه: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب)، ولما سألت زينب رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث" متفق عليه.
هذه حقيقة أحببت التذكير بها حين رأيت عجباً من بعض الصحفيين وكتاب الساحات في الشبكة الدولية، الذين استنكروا ما ذكرته في برنامج "الجواب الكافي" في قناة "المجد الفضائية" من أن المصائب العامة، ومنها الزلازل والفيضانات المدمرة التي وقعت في شرق آسيا وجنوبها عقوبة إلهية، ونذارة ربانية لمن يبارزون الله بالمعاصي، ويحادونه بأنواع المنكرات والقبائح من الربا والزنا والشذوذ الجنسي، والانفلات الخلقي، وغيرها، وأن هذه الكبائر تكثر عادة في المنتجعات السياحية، التي يؤمها السواح من أنحاء العالم، في الإجازات العامة، كعيد الميلاد وعيد رأس السنة الميلادية وغيرها.
بل ذكر بعض الباحثين أن "السياحة الجنسية" التي تكثر في تلك المناطق التي ضربها الزلزال تأتي في الترتيب الثالث عالمياً بعد تجارة السلاح والمخدرات.
وكان من آخر ما اطلعت عليه من هذه المقالات ما نشرته صحيفة "الرياض" في عددها (13349) بتاريخ: 29/11/1425هـ بقلم رئيس تحريرها، بعنوان "الجواب غير الكافي"!! وتساءل ما هو ذنب شعوب فقيرة للغاية في شرق آسيا لكي يحل بها هذا الدمار الشامل؟ ثم قال: إن الله أكثر رأفة ورحمة بعباده من أن يضعهم تحت هذه القسوة. ثم ذكر في نهاية مقاله أن هذا أمر لا يقبله العقل!! وتساءل بلغة تحريضية كنت أربأ به عنها: كيف هي أفكار هذا المتحدث مع تلامذته إذا كان هذا هو ما يقوله في هذه الواقعة؟ كما ذكر في ثنايا مقاله أن جريدة "الحياة" في عددها (15257) ذكرت أن شبكة "إن بي سي" الأمريكية أوردت هذه الفتوى، وبثت مشاهد من هذا اللقاء، الذي أثار ـ بزعمه ـ استياء كبيراً في الأوساط الأمريكية.
والجواب عن هذه التساؤلات بغض النظر عن مقصد كاتبها ومن سار على منواله، سأختصره في النقاط الآتية:
أولاًً: لقد أعمت النظرة المادية كثيراً من أبناء هذا العصر، فلم يتفطنوا للربط بين الأسباب ومسبباتها، ولم يدركوا العلاقة بين الأعمال وآثارها، فتجدهم يكتبون ويصرحون بأن سبب هذا الزلزال ضعف في القشرة الأرضية، ووجود اختلالات وفجوات في داخلها، أو أن هذا شئ يحصل في الكرة الأرضية كل مائتي عام... ونحن لا ننكر وجود مثل هذه الأسباب، ولكننا يجب أن نعلم أن وراء هذه الأسباب المادية أسباباً شرعية هي التي سببت هذا الخلل في القشرة الأرضية أو غيره من الأسباب، ثم حصلت تلك الكوارث والمصائب، فهذه الأسباب المادية التي يذكرونها ـ إن صحت ـ لا تعدو أن تكون وسيلة لما تقتضيه الأسباب الشرعية من المصائب والعقوبات العامة. يقول الله تعالى بعد أن ذكر مصارع الأمم السالفة: (فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) إنها السنة التي لا تتبدل، ولا تتخلف عند وجود أسبابها: (فكلاً أخذنا بذنبه)(وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من وعظ بنفسه، وإن سنن الله في عباده لا تحابي أحداً، فمن فعل فعلهم فقد استحق العقوبة مثلهم، (وما ربك بظلام للعبيد) (سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا) فمتى يفيق السادرون؟ ومتى يرعوي العصاة والمذنبون؟ وقد أكد الله هذه السنة الإلهية في آيات كثيرة من كتابه إعذاراً منه وإنذاراً، يقول سبحانه وتعالى: (وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد)، وقال: (ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) فإذا غير الناس ما بأنفسهم من الصلاح والاستقامة غير الله عليهم نعمته، وأبدلهم بالأمن خوفاً، وبالعز ذلاً، وبالغنى فقراً، وبالصحة بلاء وسقماً، كما قال سبحانه: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير)، ويقول: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون) فهو إذا أخذهم وعذبهم فهو بسبب ما اكتسبته أيديهم من أنواع الطغيان والعصيان.
ثم قال سبحانه محذراً من زوال نعمته، وتحول عافيته، وفجاءة نقمته: (أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتاً وهم نائمون. أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون. أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون) فأين أولئك الذين يتركون الصلوات، وينتهكون الحرمات، ويأكلون الربا، ويشربون الخمور، ويفعلون الفواحش والفجور، ويستهينون بظلم الخلق ويبخسونهم أشيائهم, ألا يخافون من مكر الله، ألا يتفكرون في هذا الوعيد الذي تنخلع له القلوب الحية، وتقشعر منه جلود المؤمنين خشية ورهبة!!
فالمصائب العامة التي تنزل بالعباد إنما هي حصائد ذنوبهم وما كسبته أيديهم، لعلهم يثوبون إلى رشدهم، ويعودون إلى ربهم، قال الله تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون). فلما كثرت المعاصي في هذا الزمن كثرت المصائب العامة من الأعاصير والعواصف المهلكة، والفيضانات المغرقة، والزلازل المدمرة، والبراكين المحرقة، والأمراض الفتاكة، والطواعين العامة، والحروب الطاحنة، والنقص والآفات الكثيرة في النفوس والزروع والثمار، وغير ذلك من المصائب والبلايا التي يخوف الله بها العباد، ويذكرهم بقوته وسطوته، ويعرفهم بعجزهم وضعفهم، وأنهم إن تركوا أمره لم يبال بهم بأي واد هلكوا، وما أهون الخلق على الله إذا أضاعوا أمره، ولجوا في طغيانهم وفساهم!!
إنها والله آيات وعبر، ومواعظ ونذر، وما يعقلها إلا العالمون، وما يعيها ويحذرها إلا العارفون