هكذا علمني رسول الله

 

هكذا علمني رسول الله ..بقلم د. وسيم فتح الله

 

يتنافس الناسُ اليوم بشهاداتهم العلمية، ويتباهون بتخرجهم من أرقى الجامعات والمعاهد العالمية، وهم في ذلك بين طالب علم الدنيا للآخرة فمأجور، أو غافل عن ربه وبظاهرٍ من الحياة الدنيا فمغرور، ولكن ماذا عن أولئك الخريجين الذين تعلموا في مدرسة لا توزع شهاداتها في الدنيا، وتفتح أبوابها لكل طالب ولكنها تستغلق على غير المخلصين فلا يفوز بها إلا قاصد وجه ربه سبحانه، كما قال بعض السلف: طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله..ماذا عن أولئك؟

 

لا يدعي أحدنا أنه قد وصل الغاية في طلب علم الآخرة، ولكن إن جاز للناس أن يتباهوا بما وصلوا إليه، فهلم إلى جولة في بستان النبوة نقتطف بعضاً من أزهارها ونشتم أريج بعضها الآخر، لندرك معاً أن هذه المدرسة هي المفخرة الحقيقية للبشرية، وأن ما سواها ليس بشيء، ليس بشيء البتة...

 

تعلمت في هذه المدرسة أن حقَّ الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وأن حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ألا يعذبهم، وتعلمت ألا يدفعني ذلك إلى التواكل، وإنما مزيد عملٍ واجتهاد، فكلٌ ميَسرٌ لما خُلق له، وهكذا علمني رسول الله..

 

تعلمت في هذه المدرسة أن التوحيد نقيٌ صفيٌ تكدره أدنى شائبة، فاجتهدت في اجتناب خوارم التوحيد واستفرغت وُسعي لا آلو في التزام محققاته، ثم لُذت بجناب الله عز وجل مستعيذاً من شركٍ لا أعلمه، أو زلة قدم تحكي ضعفي، وهكذا علمني رسول الله ..

 

تعلمت في هذه المدرسة أن المحبوب الأوحد المستحق للحب لذاته القدسية هو الله، وأن حب ما سواه تابع، وتعلمت أن حبَّ رسول الله متممٌ لهذا الحب الشرعي، فلا يكتمل إيمان مؤمن حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، تعلمت أن أتذوق حلاوة الإيمان بعدم شهود محبوبٍ سوى الله، وأن أتمم إيماني بتقديم حب النبي صلى الله عليه وسلم على من سواه؛ فلا أقدم على حُبِّه والداً ولا ولداً، ولا أجاري مكانه في قلبي من الناس أحداً، بل كل من سواه له فداء، ونفسي أول ما أضحي به حين النداء، وهكذا علمني رسول الله..

 

تعلمت في مدرسة محمد أن أحفظ الله، وتعلمت ألا أستعين بمن سواه، تعلمت أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروني بشيء لم يضروني إلا بقدر الله، وأيقنت ألا جدوى من مُحالفة أعداء الله، فلا خوفاً أخافهم فيؤمنونني، ولا قدراً يملكون فيضرونني، وهكذا علمني رسول الله..

 

تعلمت في مدرسة محمد معنى الحياة، فلا يزال لساني رطباً بذكر الله، تعلمت أن تلك الأجساد ميتة وإن نبضت فيها القلوب، طالما أن ذكر الله عنها غائبٌ محجوب، تعلمت أن أتشرف بذكر الله في نفسي، وأن أقف شامخاً بين القوم بديني، أقولها على الملأ : لا إله إلا الله، وأقول خسئ كل معبودٍ سواه، فرَّغت قلبي من كل لاتٍ وهُبل، وأعلنتها مدويةً : الله أعز وأجل، وهكذا علمني رسول الله..

 

تعلمت في هذه المدرسة معنى الولاء، وعبدت الله بمقتضى الأسماء، عزيزٌ جبارٌ قويٌ متين، فكل من والى سواه فقيرٌ مسكين، أغبياء أولئك من يوالون الكفار، أغبياء من يوالون أعداء الواحد القهار، فقد علمني الرسول الأمين أن العزة جميعاً لرب العالمين، وهكذا علمني رسول الله..

 

تعلمت في هذه المدرسة حبَّ الصحابة، وأن إتباعهم بإحسانٍ أصلُ السنة والدين، فهم حفظة الشرع وناقله الأمين، وكل طاعنٍ فيهم أفاكٌ أثيم، أحببتهم جميعاً وعرفت فضلهم، ولزمت طريقهم واتَّبعت أثرهم، فقد كانوا والله على الهدى المستقيم، وكل من خالفهم في الباطل يهيم، أحببتهم لما أمرني حبيبي بحبهم، وكففت عنهم لما أمرني بودِّهم، وهكذا علمني رسول الله..

 

تعلمت أن البر حسن الخلق، وأن الإثم ما حاك في الصدور، تعلمت أن التقوى فوق الفتوى، وأن الشبهاتِ مواردُ الثبور[1]، تعلمت أن لكل مَلكٍ حمىً وحمى الله محارمه، تعلمت أن في الجسد مضغة يصلح بصلاحها، وأن تعهد القلوب كفيل بفلاحها، تعلمت أن غرسَ قلب المؤمن كلمةٌ طيبة، وأن نماءها بالطاعة وهجر المعصية، فمن سلك الطريق ثبته الله في الموقف الخطير، موقف القبر وسؤال منكر ونكير، وهكذا علمني رسول الله..

 

تعلمت في مدرسة محمد تزكية النفوس، تعلمت تطهير الأجساد تطهير القلوب، عرفت فضل طهارة الأبدان بالتزام الوضوء، وعرفت طهارة الوجدان من كل شرٍ وسوء، تعلمت من رسول الله فضل القيام، فضل العبادة من صلاة من زكاة من حجٍ وصيام، تعلمت من رسول الله فضل النوافل بعد الفروض، تعلمت كيف يرتقي المرء كيف يكون الإيمان في صعود، تعلمت كيف أمضي حتى يكون الله سمعي وبصري ويدي[2]، تعلمت الطريق إلى الفوز وعرفت في الدنيا جنتي، وهكذا علمني رسول الله..

 

تعلمت في هذه المدرسة أن مَن خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، علمت أن سلعةَ الله غالية، وعلمت أنها الجنة، وأن السبيل إليها تمحيصٌ وفتنة، تعلمت أن الطريق ليس بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال، تعلمت أن سلعة كهذه تهون أمامها الأهوال، عرفت أن الثمن ليس أموالاً ونقود، بل أن أقدم النفس والمال فبهما أجود، تعلمت كيف أتمنى الشهادة، وعرفت أنها أسمى درجات العبادة، وهكذا علمني رسول الله..

 

في مدرسة محمد مشهد خاص لتسليم شهادات الخريجين، مشهد يوم القيامة وأخذِ الكتب باليمين، فلا تعاجل نفسك بفرحٍ أو سرور، فكم من ملتحق بالمدرسة توانى تقاعس فباء بهلاك وثبور، ولكن إن أردت استباق موعد تسليم الشهادات فالطريق محدد ، طريق من في سبيل الله جاهد واستشهد، فهو بشهادته آمنٌ من فزع القبور، آمن من الهلاك من الويل والثبور، إنه طريق الصحابة طريق البدريين، طريق عصابةٍ نصر الله بها الدين، طريق خيرة هذه الأمة من الإنسيين، وخيرها من الملائكة كما أخبر الروح الأمين، سأل جبريل النبي صلى الله عليه وسلم : ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: خيارنا. قال : هم عندنا خيارنا من الملائكة، وهكذا علمني رسول الله..

 

اللهم اجز نبينا محمداً عليه الصلاة والسلام خيرَ ما جزيت نبياً عن أمته، اللهم اشهد أنَّا نحب نبيك ونحب من يحبه، وأنا نبغض من يبغض نبيك ونكفر به ونعاديه، اللهم كما وفقتنا إلى التعلم في هذه المدرسة، وفقنا إلى المثابرة فيها والمداومة والعمل بمقتضاها، اللهم استعملنا في نُصرة نبينا وقائدنا ومعلمنا، والذب عن مقامه الكريم، اللهم استعملنا جنداً أوفياء لبيضة الدين، اللهم قد فاتنا لقاؤه في الدنيا فاجمعنا به عند الحوض وفي عليين، في الفردوس الأعلى يا رب العالمين، وهكذا علمني رسول الله ...

 

د.وسيم فتح الله

 



[1] الثبور : الهلاك

[2] كما قال تعالى في الحديث القدسي :"ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها" (صحيح البخاري)
الكاتب: د.وسيم فتح الله
التاريخ: 28/12/2006