أيها الرماة؛ الزموا مكانكم.

 

أيها الرماة؛ الزموا مكانكم

 

إن بوارق السيوف التي يسدد شهداؤنا الأبرار أثمانها أقساطاً من كلومهم ودمائهم، هي التي تضيء لنا ظلمات الطريق اليوم، وتبعث فينا الأمل بأن قلب هذه الأمة لا يزال ينبض، وأن دماءها الإيمانية لا تزال تجري، وأن شرايين الصحوة لا تزال تتمدد فيها لتستوعب هذا الدم المتفجر في أرجائها كلِ أرجائها، غير آبهة بحدود ولا تضاريس، وغير ناظرة إلا إلى أي السبل أقرب لتثعب من خلال جراحاتها دماءُ شهادةٍ جديدة، بعد أن كانت دماء حياةٍ جديدة، وهكذا دأب هذه الأمة بين دماء تجري في جسدها لتبعث فيها نشوة الإيمان، ودماء تهراق على أرض الشهادة لتملأ أرجاء الكون بعبق المسك والريحان، وبين هذه الدماء وهذه الدماء تذكرة الواحد الديان :"لن ينالَ الله َ لحومُها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم"[1]...

 

بيد أن هذه البشرى التي أخذت تشغلُ أهلَ الأرض قاطبةً مؤمنهم وكافرهم، ليست إلا بداية الطريق وليست إلا جولةً من الجولات، إن روح الجهاد التي تسري في جسد الأمة اليوم رغم كل مشاريع التخذيل والتثبيط، ورغم كل عمالات الزندقة والنفاق، ورغم كل أقساط الردة والموالاة الشيطانية التي يسددها جند إبليس، إن هذه البشرى ونحسبها من عاجل بشرى المؤمن بإذن الله، ليست إلا إرهاصاً من إرهاصات الصحوة المباركة، وليست إلا جولةً من جولات الصراع الشامل، فلا تزال بيننا وبين القضاء على شرذمة التمرد الشيطاني مفاوز وقفار، فإن القوم قد أعدوا العدة لحرب طويلة، ونحن لما نلتقط أنفاسنا من كبوات الأمس، ولما نُطهِّر قلوبنا مما ران عليها عبر عقود من الجهل والبعد عن الله تعالى، ولهذا لا بد من أن نحذر من الانشغال بأية نشوة نصرٍ عاجلة، اللهم إلا على سبيل التحفيز وشحذ الهمم، والحذر الحذر من الانشغال بجمع غنيمة أو تسجيل لحظة انتصار ميدانية عابرة، ولنتأمل جيداً ذلك الدرس القرآني العظيم:" ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسّونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضلٍ على المؤمنين"[2]، فها نحن اليوم قد بدأنا نرى ما نحب، فلنحذر من العواقب ما لا نحب، ولنعلم أن أولئك النفر من الرماة الذين خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فانشغلوا بجمع غنيمة عاجلة قد ضمنوا لأنفسهم العفو عند الله عز وجل، أما نحن فمن أين لنا هذا الضمان؟...

 

نحن إذاً بحاجةٍ اليوم إلى الثبات كلٌ في موقعه؛ فعلى المجاهد بسلاحه أن يرابط على ثغره ولا يشغله الشوق إلى زوجٍ وولد، وعلى القائد الميداني أن يرابط في ميدانه يوجه ويسدد لا تشغله مناصب تنظيمية ومكاسب حركية زائلة، وعلى العالم أن يرابط على قلمه الذي يوقّع به عن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا يوقع إلا على حق، ولا يخاف في الله لومة لائم، فإن الأعين ناظرةٌ إناه، وإن الآذان تصغي لفتواه، وإن أصبع المجاهد على رشاشه ينتظر ماذا يقول العالم، وإن القائد في الميدان يريد إجازة الخطة العسكرية يصغي لما يقوله العالم، وعلى من تكفل أهل المجاهد ألا يفرط فيهم وأن يقدمهم على نفسه، فإن المجاهد ما خرج إلا وقد أوكلهم بعد الله تعالى إليك، وعلى من أسبغ الله تعالى عليه رداء المال أن ينفق منه راجياً أن ينال فضل المجاهد وأجره وإن لم ينل حكمه، وعلى من ضاق عليه الأمر في خروجٍ أو ردءٍ أن لا يبرح يدعوا ربه ويتمنى الخروج صادقاً من قلبه فإن الله يبلغه ذلك، وعلى النساء أن يكففن عن أزواجهن فلا يرهقوهم بما لا طائل منه من متاع الدنيا الزائل، ولتنشغل أرحامهن بصناعة الشهداء، ولتنشغل قلوبهن وألسنتهن بالضراعة والدعاء إلى الله عز وجل أن يتخذ من ولدها وزوجها مجاهداً أو شهيداً، وعلى الأبوين ألا يضنوا على الله بفلذات أكبادهم ما لم يكونوا معذورين لا يستطيعون حيلةً ولا سبيلاً، وعلى كل مسلم مفارقٍ لجماعة المسلمين ببدنه أن يهجر ديار الكفر وينضم إلى سواد الأمة اليوم قبل أن لات حين ندم، عسى أن يلحقه شيء من روح الصحوة التي انبعثت في جسد الأمة اليوم، وعسى أن تناله وشيجة الولاء الإيماني المنقطعة بسبب إقامته بين ظهراني الكفار المحاربين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى كل فتى وفتاة ناشئين في هذه الأمة العظيمة أن يرتقوا بأهدافهم وطموحاتهم اليوم، وأن يتساءلوا عن حاجة الأمة إليهم، فتباً لمالٍ نجمعه فلا يزيدنا من الله إلا بُعداً، وتباً لشهادةٍ علمية نحوزها لنوظفها في مصانع الكفر وأقبية السياسة الصليبية، ومرحى بشاب نشأ في طاعة الله، وشابة نشأت في رحاب مدرسة النبوة، فانكبا على أوامر الله عز وجل يجهضان بها أوامر الشيطان وجنده، وهكذا فلن يعدم أحدنا اليوم أن يتخذ لنفسه في هذه المعركة موقعاً، ثم ليحدث نفسه بالثبات والرباط على هذا الموقع كما أمر رسولنا وقائدنا صلى الله عليه وسلم الرماة أن يلتزموا موقعهم، فإن المعركة لا تزال في بدايتها، وإنه لم يحن وقت جمع الغنيمة بعد، فلنوطن أنفسنا إذاً على أن لا ندع رباطاً إلا إلى رباط خير منه، وأن لا ننشغل بغاية إلا غايةً أسمى مما نحن فيه، وإننا والله لنجد ريح الجنة من هاهنا وهاهنا، فالزموا مكانكم، واعلموا أن أشد الرباط ما كان على ثغر التقوى، فإنه هو الذي أتعب من سبقنا، وهو الذي نجى به الله تعالى من نجى من سلفنا، ثم لنعلم أن لا عزة لنا إلا بذلٍ نطرح به أنفسنا بين يدي الله عز وجل، وسيفٍ نصون به جناب التوحيد، ونرفع به لواء إمام الغر المحجلين، والله غالبٌ على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون...

 

د.وسيم فتح الله


الكاتب: د.وسيم فتح الله
التاريخ: 28/12/2006