هداية الحيارى في معاملة اليهود والنصارى

 

هداية الحيارى في معاملة اليهود والنصارى
 
بقلم : د. وسيم فتح الله
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد،
فهذه رسالة مختصرة أُوجزُ فيها بعض معالم الحق في التعامل مع أهل الكتاب، دفعني إلى تحريرها ما رأيته من كثير من إخواني المسلمين من غفلةٍ عنها أو جهلٍ بها أو تساهل في التزامها، فوجب البيان والتنبيه خروجاً من العهدة، وقياماً بواجب المناصحة الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، عن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الدين النصيحة"، قلنا: لمن؟ قال:" لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم"[1].
 ولقد حرصت على ذكر كل واحدٍ من هذه المعالم مقروناً بالدليل الصحيح من الكتاب والسنة، ولم أستطرد بكلامٍ من عندي إلا ما اقتضته الحاجة للبيان، والله الموفق وهو المستعان وعليه التكلان.
أولاً: أهل الكتاب كفار : يجب ألا يغفل مسلم أو يحتار في أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى كفار، والدليل على ذلك قوله تعالى:" لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم"[2]،
 
وقوله تعالى:" لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالثُ ثلاثة"[3]،
وقوله تعالى:" وقالت اليهودُ يدُ الله مغلولة غُلَّت أيديهم ولُعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدنَّ كثيراً منهم ما أُنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً"[4]،
 فهذا كله صريحٌ في كفر اليهود والنصارى.
ثانياً: أهل الكتاب الوارد مدحهم في القرآن هم الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم: فما ورد في بعض آيات القرآن الكريم مما فيه مدح بعض أهل الكتاب كقوله تعالى :"لتجدنَّ أشد الناس عداوةً للذين آمنوا اليهودَ والذين أشركوا ولتجدنّ أقربهم مودةً للذين آمنوا الذين قالوا إنَّا نصارى.."[5]،
هو في من آمن وأسلم منهم كالنجاشي وعبد الله بن سلام وغيره من مؤمني أهل الكتاب الذين شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأنه لا يجوز أن يُقتطع مثل هذا النص من سياقه الكامل الذي يدل على أن الممدوح منهم من استجاب للحق وآمن بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، كما تدل عليه بقية الآية والآية التي تليها حيث قال تعالى:" ..ذلك بأن منهم قِسِّيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون. وإذا سمعوا ما أُنزل إلى الرسول ترى أعينَهم تفيضُ من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنَّا فاكتبنا مع الشاهدين"[6]،
فإذا عُلم هذا فلتوقن أيها المسلم أن القرآن الكريم لا يمدح الكفار يهوداً كانوا أم نصارى أم غير ذلك من أتباع الشرائع المبدلة أو الأهواء المضلة.
ثالثاً:اختصاص أهل الكتاب ببعض أحكام الفقه: إن ما تقدم من دخول أهل الكتاب في عموم الكفار لا يمنع من أن يخصهم الله تعالى ببعض الأحكام الشرعية، ولذلك فإن أهل الكتاب صنفٌ خاص من الكفار باعتبار ما يختصون به من معاملات وأحكام فقهية، ولا يعني اختصاصهم بهذه الأحكام أنهم ليسوا كفاراً. والدليل على ذلك ما تقدم من آيات صريحة في كفرهم، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"والذي نفسُ محمدٍ بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به إلا كان من أصحاب النار"[7]،
 فدل على أنهم مع ما لهم من أحكام فقهية خاصة لا يزالون مخاطبين برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن من مات منهم على عقيدته من يهودية أو نصرانية فإنه خالدٌ في النار بكفره.
رابعاً :البراءة من اليهود والنصارى ضرورةٌ إيمانية، وتوليهم محرمٌ ناقض للإيمان: إن عقيدة التوحيد عند كل مسلم تستلزم منه أن يتبرأ إلى الله تعالى من كفر اليهود والنصارى، وأن يبغض ما هم عليه من كفر، ويبغضهم لكفرهم بغضاً شرعياً لا بغضاً شخصياً لمجرد دواعي الهوى، أي أنك تبغضه لمجرد كفره، لا لأنه حرمك أو ظلمك في مصالحك الشخصية، والدليل على وجوب ذلك قوله تعالى :"قد كانت لكم أسوةٌ حسنةٌ في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنَّا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرنَّ لك وما أملك لك من الله من شيء"[8]،
وقد بينت الآية الأخرى أن استثناء إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأبيه كان لشبهة أنه يتوب، فلما زالت الشبهة عاد إلى أصل البراءة من الكفار، قال تعالى:" وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدةٍ وعدها إياه فلما تبين أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأوّاه حليم"[9].
وجاءت آية أخرى تؤكد هذا الحكم في اليهود والنصارة خاصة فقال عز وجل:" يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين"[10]،
 وهكذا فإن لازم البغض والعداء في الله تحريم تولي أعداء الله من اليهود والنصارى؛ فمن تولى اليهودي فهو من اليهود، ومن تولى النصراني فهو من النصارى بنص القرآن الكريم :"ومن يتولهم منكم فإنه منهم"، ومعنى التولي يشمل الحب والمودة والإعجاب والنصرة والمظاهرة – أي المساعدة – على المسلمين وحب الإقامة بينهم وحب الاقتداء بهم وحب رياستهم وفعل ذلك كله مما هو مبسوط في مقالات أهل العلم ومجمع عليه بينهم.
خامساً: لا يجتمع حب الله وحب عدوه في قلب امرئ مؤمن: إن البغض والعداء في الدين من أركان التوحيد، فلا يجتمع حب الله وحب عدو الله قال تعالى:" لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادُّون مَن حادَّ اللهَ ورسولَه ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم "[11]،
 وهذا المنفي هو حب الطاعة والتولي والإعجاب ولا يدخل فيه الحب الطبعي الجِبِلِّي – كحب الأم لكونها أم أو الابن لكونه ابن - فهذا مغتفرٌ لأنه غير مقدور للمرء تغييره، ولأنه يدخل في باب التعامل بالمعروف دون المداهنة في الدين، قال تعالى في الأبوين المشركَين:" وإن جاهداك على أن تُشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً"[12].
سادساً: المعاملة بالبر والقسط دون ظلم أو اعتداء:  إن البغض والعداء الديني ليس مبرراً للعدوان والإجحاف بحقوق الناس، وأول حقٍ لأهل الكتاب علينا هو تبليغ رسالة الإسلام، وإن الضابط والمعيار الصحيح لكون بُغضهم في الله هو أن نحب لهم الهداية والخير كما نحبه لأنفسنا، وأن نحرص على أن ندلهم على الخير كما نحرص عليه لأحب الناس إلينا، قال تعالى:"قل يأيها الناس إني رسولُ الله إليكم جميعاً الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون"[13]،
 
وقال تعالى:" قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون"[14].
سابعاً: أهل الكتاب المقيمين بين ظهراني المسلمين : وهؤلاء أنواع ولكل نوع حكم، ولكن يجب التنبيه على أنه لا يجوز السماح لأهل الكتاب في الإقامة في الحرمين ولا في جزيرة العرب بدليل قوله صلى الله عليه وسلم :" أخرجوا المشركين من جزيرة العرب "[15]،
وصرح باليهود والنصارى في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" لأُخرجنَّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلماً"[16]، 
 فعلى كل من له سلطة أو قرار في استقدام النصارى واليهود إلى جزيرة العرب بدون مسوغ شرعي صحيح أن يتق الله عز وجل، وأن يعلم أنه مخالف لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعد ذلك نقول: إن من يجوز بقاؤه من أهل الكتاب بين المسلمين على الدوام أو التأقيت إما أن يكون ذمياً أو مستأمناً أو معاهداً، وحيث إن السياق الشرعي الصحيح لهذه الفئات متعطل اليوم فيمكننا أن نلجأ إلى تقسيم أسهل من الناحية العملية، وهو أن الكتابي بين المسلمين اليوم إما مُظاهر أو غير مُظاهر على المسلمين، والدليل على هذا التقسيم قوله تعالى:"لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يُخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتُقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون"[17]،
 وكلامي من الآن فصاعداً يقتصر على الفئة الأولى أعني غير المظاهرين، وشرطها ألا يقاتلوا المسلمين ولا يُخرجوا المسلمين من ديارهم ولا يعينوا على أيٍ من ذلك بأي نوع من أنواع الإعانة المادية أو المعنوية، فهؤلاء إن وُجدوا بين المسلمين انطبقت عليهم – إضافة لما تقدم – المعاملات والأحكام التالية، أما الفئة الثانية المظاهرة والمقاتلة فليس هذا موضع الكلام عنها:
ثامناً: أما أحكام هؤلاء غير المظاهرين في مجال العقيدة فقد تقدمت وخلاصتها ما يلي : اعتقاد كفرهم وبغضهم لذلك، واعتقاد توجه الدعوة إليهم وحب ذلك لهم، وتحريم توليهم ومداهنتهم في الدين، ووجوب التبرؤ منهم ومن كفرهم من أجل سلامة التوحيد في قلوبنا.
تاسعاً: وأما أحكامهم في مجال المعاملات فسوف نوجز منها ما تدعو الحاجة إليه إن شاء الله مع التركيز على ما يخص الأفراد مما يواجهونه في حياتهم اليومية. و القاعدة العامة في التعامل مع اليهود والنصارى : أنه كل ما كان دائراً في فلك العقيدة والموالاة اعتقاداً أو قولاً أو عملاً فهو حرام وقد يكون مورداً للكفر، وكل ما كان من جنس المعاملات المالية (كالبيع والشراء )أو الاجتماعية ( كرد السلام ) أو الإنسانية ( كإغاثة الملهوف وإعانة المحتاج)فيجب فيه التعامل بالبر والعدل ما لم يدل دليل خاص على تحريمه.
عاشراً: التحية والسلام : التحية والسلام جائزة عموماً لعموم قوله تعالى:"وإذا حُييتم بتحية فحيُّوا بأحسن منها أو رُدُّوها "[18]،
 ولكن هذا ينضبط بأمور؛ منها ألا يكون المسلم مبادراً بالتحية والسلام، لا سيما على وجه التكريم والاحتفاء، لقوله صلى الله عليه وسلم :"لا تبدأوا اليهود ولا النصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم فيطريق فاضطروه إلى أضيقه"[19]،
 فالمقصود بالاضطرار إلى أضيق الطريق النهي عن التوسعة على وجه التكريم، وليس المقصود أن تدفعه دفعاً وهذا يفسر لنا المقصود من عدم الابتداء بالسلام، فالنهي عنه أشد ما يكون إذا قُصد منه تكريمهم والحفاوة بهم. فإذا سلم عليك الكتابي فرُدَّ عليه التحية بالمثل فقط، وإذا استخدم لفظ "السلام عليكم" أو " السلام عليكم ورحمة الله" فلا يخلو أن يكون قاصداً التحية فيرد عليه بالمثل أيضاً فتقول : وعليك السلام ، أو أن يكون مستهزئاً أو شاتماً فترد عليه بقولك : "وعليكم" فقط ( أي ما ذكرتم من الاستهزاء أو الشتيمة)، بدليل حديث النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم: السام عليك، فقل: وعليك"[20].
حادي عشر: النداء والألقاب : لا يصح نداء وخطاب أهل الكتاب بأي لفظ أو لقب يوحي بتعظيمهم، كقولك : يا سيدي أو يا سيدتي، أو نحو ذلك، بدليل قوله تعالى واصفاً المؤمنين الذين يحبون الله ويحبهم الله :" فسوف يأتي الله بقومٍ يحبهم ويحبونه أذلةٍ على المؤمنين أعزةٍ على الكافرين"[21]
،
 ولا يجوز إظهار أي نوع من الخضوع أو الانكسار في مخاطبتهم وندائهم لنفس الدليل، ويجوز إسناد ما لهم من ألقاب بين قومهم أو ألقاب علمية على سبيل حكاية الواقع لا على سبيل الإقرار لهم بعز ولا مكانة، بدليل كتاب النبي صلى الله عليه وسلم : "من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم" فذكر عظمته نسبةً إلى قومه ولم يقل صلوات الله وسلامه عليه : إلى هرقل العظيم! وهذا أصلٌ عام في منع كل ما يدل على تعظيمهم والخضوع لهم كما قال تعالى:" ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً"[22]،
 فهذه الآية إنشائية خبرية بمعنى الطلب والأمر بأن لا يُعز الكافر على المسلم.
ثاني عشر: الأعياد : تحرم تهنئة أهل الكتاب بأعيادهم، والحرمة أشد في الأعياد الدينية مثل الكريسماس، وعيد الفصح وعيد بعض القديسين وعيد الشكر وغير ذلك، ويحرم حضور الاحتفال بهذه الأعياد أو المشاركة فيها بالمال أو التحضير أو الزينة أو العون أو مجرد الحضور، والدليل قوله تعالى واصفاً عباد الرحمن :"والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مرّوا كراماً"[23]،
ولحديث ثابت بن الضحاك قال :" نذر رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينحرإبلاً ببوانة[24]،
 فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة. فقالالنبي صلى الله عليه وسلم:" هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يُعبد؟"  قالوا : لا . قال:" هلكان فيها عيد من أعيادهم؟" قالوا : لا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أَوف بنذرك فإنهلا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم "[25].
 أما التهنئة بغير الأعياد والمناسبات الدينية أو المحرمة فلا بأس إن شاء الله بالتهنئة بالمناسبات الاجتماعية والإنسانية كولادة مولود أو ترقي في وظيفة أو قدوم من سفر إذا خلا من محذور وكان سبيلاً إلى تألفهم والتمهيد لدعوتهم إلى الحق.
ثالث عشر: عيادة مريضهم : ويسلك في هذا المجال مسلك التفصيل؛ فتجوز عيادة مريضهم – أي زيارته – إذا كانت تألفاً لقلوبهم وإظهاراً لأخلاق الإسلام وسماحته دون مداهنة في الدين أو إقرار لهم على باطل، ولا شك أن الهدي الأكمل في ذلك يتمثل في دعوتهم إلى الإسلام صراحةً لا سيما في مرض الموت كما كان فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فعن أنس رضي الله عنه قال: كان غلامٌ يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: أسلِم. فنظر إلى أبيه وهو عنده فقال له: أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم، فأسلَم. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول:" الحمد لله الذي أنقذه من النار"[26]،
فهذه الزيارة لمرضى أهل الكتاب مشروعة بلا ريب، أما إذا كانت عيادتهم وزيارتهم من باب التزلُّف والمداهنة والحب والتعظيم لهم دون دعوة إلى الإسلام أو عزم على ذلك أو تألُّف قلوبهم تمهيداً لذلك فلا، وإذا أردت أن تعرف معيار ما تقدم في نفسك فانظر إلى من تعزم عيادته من مرضى أهل الكتاب؛ فإن كنت تهوى عيادة المرضى مِن علية القوم ورؤساء العمل وذوي الجاهة والمنصب وتعزف عن المساكين والبسطاء منهم فاعلم أن هذا ما هو إلا لحظ النفس ولا خير فيه البتة، وأما إذا كان منصب وجاه المريض عندك سيان وكنت تعوده دون نظر إلى مصلحة دنيوية مع خلو القلب من الإعجاب بهم والركون إلى كفرهم فلا بأس إن شاء الله على أن يقتصر على القدر الكافي لتحقيق ما تقدم. ثم اعلم أنك إن كنت تزور وتعود مرضى أهل الكتاب وليس لمرضى المسلمين من عيادتك نصيب أنك لست على شيء، لأنك لو كنت متبعاً للشرع في عيادة أهل الكتاب لكُنت لعيادة المسلمين أشد حباً والتزاماً، والله تعالى أعلم.
رابع عشر: تعزيتهم وحضور جنائزهم : قال الله تعالى :" ولا تُصلِّ على أحدٍ منهم مات أبداً ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون"[27]،
فتحرم المشاركة في الصلاة على الميت الكافر أو المشاركة في أي من طقوسهم وشعائرهم الدينية في الجنائز والدفن، وللمسلم أن يدفن قريبه الكافر ما لم يتضمن ذلك محظوراً كشهود أي من المحرمات أو ممارسة طقوس وشعائر غير شرعية. أما مجرد تعزية الكافر من أهل الكتاب بوفاة أحدٍ له فيراعى فيه ما تقدم من ضوابط عيادة مرضاهم، فما كان من باب التألف والمداراة فعسى أن لا يكون به بأس، وما كان من باب المداهنة والحب والتعظيم لشأنهم فلا ولا كرامة، والله تعالى أعلم.
خامس عشر: أكل طعامهم : يحل للمسلم أكل طعام وذبائح أهل الكتاب مما هو جائز لنا مثله – كالبقر والدجاج ونحوه – ويحرم كل ما هو حرام في ديننا – كالخنزير والخمر – والدليل قوله تعالى:" وطعام الذين أوتوا الكتاب حِلٌ لكم وطعامكم حِلٌ لهم"[28]،
 ويُشترط أن تذبح وتذكى ذكاةً صحيحة ولا حاجة للسؤال عن ذلك إذا كان غالب وظاهر حالهم أنهم يذبحون ذبحاً صحيحاً، ويُشترط أيضاً ألا يكون ذُبح لمناسبة دينية أو لعيد أو في كنائسهم وبِيَعهم على أنصابهم، لقوله تعالى :" إنما حَرَّم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهلَّ به لغير الله "[29]،
ويستوي في تحريم هذا النوع ما كان ذبيحة وغيره كطعام أُعد لمناسبة دينية كالذي يسمونه عيد الفصح أو الكريسماس فيحرم الأكل منه.
سادس عشر: مناكحتهم : يحرم على المسلمة أن تتزوج من كتابي يهودي أو نصراني ولا يحل لها أن تنكح غير المسلم، بدليل قوله تعالى :" ولا تُنكحوا المشركين حتى يؤمنوا "
[30]وهذا عمومٌ غير مُخصَّص، أما المسلم فيجوز له الزواج من كتابية يهودية أو نصرانية بشرط العفة والإحصان على الصحيح إن شاء الله بدليل قوله تعالى:" والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان"[31]،
 وهذا مما تختلف فيه الكتابية عن الكافرة غير الكتابية التي يحرم على المسلم الزواج منها.
سابع عشر: البيع والشراء منهم: الأصل في المعاملات الحل، فلا بأس في البيع والشراء من الكتابي ما لم يكن شيئاً محرماً – كلحم خنزير أو خمر – أو يُفضي إلى محرم كبيعهم السلاح في وقت الفتنة بحيث قد يستعملونه ضد المسلمين ، والدليل على ذلك عموم قوله تعالى :" وأحل الله البيع "[32]
فلا يستثنى إلا ما دل الشرع على استثنائه أو تحريمه كما بيَّنا، فلا يجوز بيعهم الخمر أو الخنزير أو شراؤه منهم ولا يجوز بيع الصلبان والتماثيل لهم ولا بطاقات أعيادهم ولا يجوز بيعٌ أو شراءٌ منهم إذا أدى إلى حرام، ويكون هذا من باب سد الذرائع إلى الحرام.
ثامن عشر: تحريم ارتكاب المحرمات إرضاءً لهم : فارتكاب المحرمات في حد ذاته مصيبة لما فيه من مخالفة أمر الله تعالى وأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن أن يرتكب المحرم إرضاءً وتزلفاً وتودداً لأهل الكتاب ورغبة في الظهور بمظهر المتحرر والمتحضر وأنه غير متعصب ولا متذمت وأنه متفتح على الحضارة وما إلى ذلك من سفه ومروق فإنه الطامة الكبرى ، بل إنه مورد الشرك – شرك الطاعة – والعياذ بالله ، بدليل قوله تعالى:" ولا تأكلوا مما لم يُذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون"[33].
تاسع عشر: تحريم إعانتهم على المنكر: لا يُعان الكتابي على أي قول أو فعل منكر سواء أكان من جهة العقيدة أو العبادات أو المحرمات، وذلك بدليل النهي العام عن ذلك حيث قال تعالى:" ولا تعاونوا على الإثم والعدوان"[34]،
ومن أمثلة ذلك معاونتهم على إقامة شعائرهم الدينية وتوصيلهم بالسيارة لذلك وإبداء المشورة في ذلك والسماح لهم بإظهار معالم كفرهم – كالصلبان وغيرها – بين المسلمين ، وتوزيع كتبهم ومنشوراتهم وأشرطتهم أو دعوتهم لإلقاء محاضرات عن دينهم وإرشادهم إلى أماكن المجون والفجور والخمور، أو تمكينهم من أي وضع يفتنون به عامة المسلمين في دينهم وغير ذلك مما يصعب حصره.
عشرون: لا يؤخذ بأقوال أهل الكتاب في الأمور الدينية : فالأصل ألا يترخص المريض مثلاً في شيء من الرخص الدينية – كالإفطار أو التيمم أو عدم القيام في الصلاة – لمجرد رأي طبيب من أهل الكتاب إذا وُجد الطبيب المسلم الحاذق في مهنته، لأن أهل الكتاب لا يؤتمنون على الدين، وهم ليسوا بعدول، وقد اشترط الله تعالى العدالة في الشهود وفيمن يؤخذ برأيهم وأقوالهم في أمور الدين بدليل قوله تعالى:" يحكم به ذوا عدلٍ منكم"[35]،
أما إذا عدم الطبيب المسلم الحاذق وخشي المريض على نفسه الضرر فيعمل برأي الأمثل ( أي أقرب أهل المهنة إلى الصدق والعدل والمشهود له بالأمانة في مهنته لتعذر غيره ) وعليه أن يحتاط لدينه قدر الإمكان ويستشير أهل العلم، أما في المناصب الحساسة كالولايات العامة والخاصة وما فيه اطلاع على عورات المسلمين وأسرار الدولة وأمنها فلا يطلعون عليها بحال ولا يولون منها شيئاً لما في ذلك من كشف لعورات المسلمين وتهديد لأمنهم، والله تعالى أعلم.
وبعد، فإنك أيها المسلم قد تستثقل بعض ما ذكرت، ولكن تأمل معي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" قال الله: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولداً وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفأ أحد"[36]،
 تأمل هذا الحديث وتأمل هؤلاء الشاتمين المكذبين لله عز وجل، ثم اسأل نفسك: لو أن أحداً شتمك أو شتم والديك فهل كنت تتحفظ في شيء من هذه الضوابط لحظةً واحدة؟ فلا يكن حظ الله تعالى منك ومن نفسك أقل من حظ نفسك وأمك وأبيك، ونحن ما دعوناك لظلم أحد ولا الجور على أحد، وقد أقمنا لك الدليل على كل ما نبهنا إليه من ضوابط التعامل مع أهل الكتاب على إيجاز غير مخلٍ إن شاء الله، وجزى الله تعالى من استدرك علينا خطأنا مشفوعاً بالدليل، اللهم هل بلغت؟ اللهم فاشهد.
وكتب الفقير إلى رحمة ربه
 وسيم فتح الله


[1] صحيح مسلم – حديث 55
[2] سورة المائدة – آية 72
[3] سورة المائدة – آية 73
[4] سورة المائدة – آية 64
[5] سورة المائدة – آية 82
[6] سورة المائدة – آية 82-83
[7] صحيح مسلم – حديث 153
[8] سورة الممتحنة – آية 4
[9] سورة التوبة – آية 114
[10] سورة المائدة – آية 51
[11] سورة المجادلة – آية 22
[12] سورة لقمان – آية 15
[13] سورة الأعراف – آية 158
[14] سورة آل عمران – آية 64
[15] صحيح البخاري – حديث 2888
[16] صحيح مسلم – حديث 1767
[17] سورة الممتحنة – آية 8-9
[18] سورة النساء – آية 86
[19] صحيح مسلم – حديث 2167
[20] صحيح البخاري – حديث 5902
[21] سورة المائدة – آية 54
[22] سورة النساء – آية 141
[23] سورة الفرقان – آية 72
[24] اسم لموضع
[25] سنن أبي داود – حديث 3313 وسكت عنه
[26] صحيح البخاري – حديث 1290
[27] سورة التوبة – آية 84
[28] سورة المائدة – آية 5
[29] سورة البقرة – آية 173
[30] سورة البقرة – آ ية 221
[31] سورة المائدة – آية 5
[32] سورة البقرة – آية 275
[33] سورة الأنعام – آية 121
[34] سورة المائدة – آية 2
[35] سورة المائدة – آية 95
[36] صحيح البخاري – حديث 4690

الكاتب: د. وسيم فتح الله
التاريخ: 05/01/2007