الليبرالية مفهوم كفر

 

الليبرالية مفهوم كفر

 

بقلم الدكتور/ ماهر أبو ثائر ـ فلسطين

 


يشهد العالم صراعا مريرا بين الثقافات، وتضاربا حادا في المصالح بين الدول، وهيمنة من قبل الدول ذات النفوذ، وخلال هذا الصراع والتضارب تستخدم العديد من الطرق من قبل الدول الأقوى للهيمنة على الدول الضعيفة وكذلك لصرفها عن الانعتاق الحقيقي من التبعية الفكرية والسياسية، ومن ثم لإعاقتها عن صناعة النهضة على أساس ثقافتها الخالصة. و الغزو الفكري يشكل إحدى هذه الطرق، الي يركز على ترويج مفاهيم الكفر بين المسلمين، وذلك يتم أحيانا من قبل من يتحدثون لغتنا. والليبرالية واحدة من هذه المفاهيم التي ينضبع بها البعض، ويضلل بها البعض الآخر. وهذه المقالة تتناول هذا المفهوم الجاهلي.
 
تقوم الليبرالية بالأساس على الحرية والإستقلالية والفردية، وبالتالي فهي تأتي ضمن نفس  السياقات الفكرية للديمقراطية وحقوق الإنسان. وحول محورية الحرية، ينظر بعض المنظرين لليبرالية على أنها الفلسفة (أو الفكر)، وللديمقراطية على أنها النظام السياسي الناتج عنها، ومن كليهما (فكر وطريقة عيش) ينتج ما يمكن تسميته بمبدأ الحرية.
 
ومن هذا المنطلق، فالليبرالية مرتكز رئيسي من مرتكزات الفكر الغربي وإحدى إفرازات عصر النهضة الأوروبي، فهي (كغيرها من أسس الفكر الغربي الحديث) جاءت كردة فعل على تسلط الكنيسة ونظام الإقطاع والملوك إبان التمرد الأوربي الذي حصل أوجه إثر الثورة الفرنسية عام 1789م والتي اطلقت فكرة الحرية. ومن الناحية التاريخية، يرجع بعض المفكرين جذور الفكر الليبرالي إلى الفكر اليوناني الإغريقي، تماما كالديمقراطية.
 
وتركيز الليبرالية الاساس هو الإنسان، وبالتالي فهي توصف بأنها مذهب قضيته الإنسان، حيث تجعله محور الحياة، ومن هذا الباب فهي توصف بالإنسانية، وجاء في الموسوعة الفلسفية العربية أن "جوهر الليبرالية التركيز على أهمية الفرد، وضرورة تحرره من كل أنواع السيطرة والاستبداد" (السياسي والاجتماعي).  وبالتالي فالليبرالية تدعو للتحرر من كل سلطة خارجية أو إكراه سواء أكان دولة أو جماعة أو فردا، وهي تعمل على حماية الفرد والدفاع عن سيادته. وتتبلور الفكرة حول التمرد والرفض لكل أشكال السلطة الخارجية التي تحول دون تحقيق الاستقلال الذاتي الفردي، ومن ثم التصرف وفق طبيعة النفس ورغباتها، وما ينتج عن ذلك من الانفلات نحو الحريات (ومن هذا الباب ترتبط الليبرالية بالديمقراطية).
 
وأصل كلمة الليبرالية (LIBERALISME) ليس عربيا، وهي تعني الحرية، وحول هذا المعنى تفيد الموسوعة الميسرة بأن "الليبرالية: مذهب رأسمالي ينادي بالحرية المطلقة في الميدانين الاقتصادي والسياسي". وهذا التمرد والهروب من كل سلطان خارجي يفضي إلى ما يعتبر "إنكفاء على النفس" والداخل، وهو يتوافق مع "انفتاح تجاه القوانين التي تشرعها النفس" والتوافق مع رغباتها، وهذا أحد معاني طاعة "الهوى" الذاتي، وهو ينسجم مع تعريف جان جاك روسو: "الحرية الحقة هي أن نطيع القوانين التي اشترعناها نحن لأنفسنا". بينما يرى بعض المنظرين أن الحرية تكمن في التحرر من شهوات النفس.
 
وتوضح الموسوعة الحرة (Wikipedia, the free encyclopedia) الترابط بين الحرية والديمقراطية وبين الليبرالية حيث تعرّف الليبرالية على أنها ايديولوجية أو تيار للفكر السياسي والتي تسعى لتعظيم الحرية الفردية من خلال نظام ديمقراطي للحقوق تحت القانون. وتفيد بأن الليبرالية تبحث عن مجتمع يتميّز بالفعل الحر من خلال إطار معرف يتضمن حكومة ديمقراطية وحكم القانون والتعبير الحر عن الأفكار والمنافسة الاقتصادية. وتطرح الترابط مع حقوق الإنسان فتفيد أن المبادئ الأساسية لليبرالية تتضمن الشفافية والحقوق الفردية والمدنية وخصوصا حق الحياة والحرية والملكية وتساوي الحقوق للمواطنين واختيار حكومة من خلال انتخابات عادلة ومفتوحة.
 
وتتوافق الليبرالية مع العلمانية التي تعني فصل الدين عن السياسة بل عن مجالات الحياة كافة، ومع النفعية (والتي هي مقياس الأعمال في المبدأ الرسمالي)، والعقلانية بمعنى إخضاع كل شيء لحكم العقل، فهي ترى أن العقل الإنساني ناضج إلى حد يؤهله أن يرعى مصالحه ونشاطاته، وبالتالي فالعقل هو المشرع فيها.
ويفصّل المنظرون عدة أنواع من الليبرالية منها الليبرالية السياسية التي هي نظام سياسي يقوم على العلمانية والديمقراطية والحرية الفردية، والليبرالية الاقتصادية التي تقوم على منع تولي ومباشرة الدولة للنشاطات الصناعية، والنشاطات التجارية، ومنعها من التدخل في العلاقات الاقتصادية التي تقوم بين الأفراد والطبقات أو الأمم.
هذا مجمل ما تطرح الليبرالية ... وبالعموم فالليبرالية صورة من صور فكر الحرية والنهج الوضعي ... فأين تقف على أرضية الفكر الصحيح وأرضية الإسلام ؟
 
من الواضح أنها تناقض الإسلام في كل شيء ... والمدخل الوحيد للتضليل فيها قد يكون من باب خلط مفهوم حرية الإنسان (بمعنى أنها ضد العبودية للناس) وبالمعنى الوارد في قول عمر بن الخطاب "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا" بمفهوم الحريات الشخصية لدى الغرب. بينما الإنسان في الإسلام حر بمعنى أنه ليس عبدا للبشر ... ولكنه يفتخر بعبوديته لله والتي تأتي في كتاب الله كتشريف، كما في قوله تعالى: (يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ) (الزخرف 68 ) وكذلك في قوله تعالى:{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} (الانسان6).
ومع ذلك فيدحض الفكر الليبرالي من عدة منطلقات أخرى منها الفكرية ومنها الشرعية، ولا يتسع المقام هنا للخوض في التفاصيل، ويكفي في الحقيقة أخذ فكرة واحدة من حزمة الأفكار التي تقوم عليها الليبرالية لنسفها فكريا وإسلاميا. فمثلا لتيبان التعارض مع الفكر الإسلامي يكفي تبيان كفر الفكر القائم على أساس فصل الدين عن الحياة (العلمانية) من منطلق قوله تعالى "إن الحكم إلا لله"، وقوله في سورة آل عمران:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (آل عمران 50).  ويكفي لدحض فكرة طاعة النفس (والهوى) قوله تعالى في سورة الفرقان-43: {أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا}،
 
وبالطبع ينقض الفكر أيضا في معرض نقض الديمقراطية، وتعارضها مع أسس الإسلام في جعل التشريع لله تعالى وكفر فكرة السيادة للشعب، وتعارض فكرة الحريات مع مفهوم العبودية لله. وخصوصا فكرة الحرية المطلقة التي لا تحتمل أية لبس في مناضقتها للإسلام الذي يفرض على المسلم التقيّد بالحكم الشرعي. وبالعموم تنقض الليبرالية إسلاميا من كونها تقر التشريع البشري الوضعي وهذا يناقض مفاهيم الإسلام التي ترجع التشريع لله من منطلق مفهوم الأولوهية والحاكمية لله والعبودية من قبل البشر.
ولا يتسع المقام للحديث حول حقوق الإنسان، والتي قد تستغرق مقالة أخرى، ولكنها بشكل عام مفاهيم تقوم أيضا على إقرار حقوق طبيعية للبشر تفرضها الطبيعة ويمكن استقاؤها من الطبيعة ذاتها (كالقوانين الطبيعية)، وليس على أساس الأحكام الشرعية كما في الإسلام، وتفاصيلها أيضا تتضمن حق الحرية وبالتالي فهي باطلة كمفاهيم عامة من باب بطلان مفاهيم الحرية.
وكذلك تنقض الليبرالية من الناحية الفكرية البحتة لوجود تعارض في الفكر ذاته، أي أنها فكر غير متجانس وبالتالي فينهار أمام التخيل الفكري الخالص. فالليبرالية تدعو للحرية المطلقة وهذه الفكرة تتعارض مع قيم غربية أخرى، كالعدالة والمساواة بين الناس، وتتعارض الحرية المطلقة مع حريات الآخرين، وبالتالي يعتبرها بعض المنظرين انتكاسة حقيقية لمفاهيم حقوق الإنسان، ومن هنا فرضت القيود على الحرية كحل ترقيعي للحفاظ على عقد المجتمع. وفي العادة فإن مثل هذا القيد غير محدد بحدود واضحة، ومن ثم فهو مفتوح للأهواء ولتقديرات المشرعين البشر، ومن هنا فمن الطبيعي وجود خلاف حول معنى الحرية، وحد القيد المحدد للحرية.
والحمد لله القائل {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}(النساء 65).
الكاتب: د.ماهر أبو ثائر
التاريخ: 28/12/2006