علم المستقبليات ..

 


علم المستقبليات

 

هذا الموضوع ليس تأصيلاً للرجم بالغيب أو استلهاماً للطالع ولا دعوة لضرب الودع أو قراءة الفنجان لا سمح الله وليس هو دعوة ساذجة لصناعة آلة وهمية للزمان, وإنما هي محاولة للفت الأنظار القصيرة للتجاوز ما تحت الأقدام وتحلق في أفاق الغد البعيد لاستطلاع ما هو آت كما أنه دعوة للتخطيط الجيد ليس فقط استناداً على وقائع الماضي و معطيات الحاضر وإنما وضع إرهاصات وبشائر المستقبل كعنصر أصيل أيضاً في حساب المخططين وصناع القرار وهو كذلك تأكيد لحتمية الحياة في المستقبل قبل أن يوجد بشرط أن يحيا من حي فيه عن بينة0

وعلم المستقبليات من أحدث العلوم عند الغرب اليوم تجند من أجله الجيوش الجرارة من المتخصصين في مختلف العلوم وتنشئ من أجله المراكز البحثية والهيئات العلمية حيث يشكل المستقبل لهم هاجساً مخيفاً يحسبون له ألف حساب خاصة مع تجريد النظرة المادية وغياب الإيمان بالغيب في واقع حياتهم وتزداد أهمية المستقبليات عندهم في مجال الثروات الاقتصادية والموارد الغذائية والمائية وعلاقتها بالصراعات الجيوسياسية وما ينبني عليها من تحالفات ومعاهدات أو حروب ومنازعات كما لا يغيب البعد الديني أبداً عن خواطر صناع القرار خاصة في بعض الدول المستكبرة ذوات الأطماع الإمبراطورية والأهداف التوسعية ممن كان لهم حظ من الكتاب من قبلنا بل يلعب دوراً هاماً جداً في رسم خريطة الأحداث القادمة وصناعة المستقبل أو دفع عجلة التاريخ في اتجاه أحلام تلمودية ونبؤات توراتية وإنجيلية ورثوها مع أطلال كتب كانت ذات يوم مقدسة وبقايا قراطيس محرفة لا يكاد يسلم منها إلا أشباح حقائق وأنصاف أكاذيب وأكاذيب كاملة!

وهنا يثور سؤال من الأهمية بمكان ألا وهو كيف يكون استشراف المستقبل وعلى أي أساس ينبغي أن تبنى القناعات وترسم الأهداف؟! وهل يصلح أن تكون الأمنيات في حد ذاتها خطة للمستقبل؟ فهل يكفي أن أبغض عدواً كاليهود مثلاً وأتمنى زواله ليزول؟ وهل هو استشفاف غيبي تحوله وتوجهه الرؤى والمنامات على سبيل المثال؟ وهل يصلح أن يكون الدجل كالتنجيم وقراءة الطالع أساساً لهذا العلم المستقبلي الذي نرجوا؟

فإذا كان العلم ـ في ماهيته ـ يعني صورة الحقيقة في النفس إذا طابقت الواقع فعلى هذا الأساس لا يصلح أن يسمى كل ما سبق بالعلم وإنما يصلح ان يسمى أوهاماً و خيالات أو ـ على أحسن تقدير ـ مبشرات, ولكن علم المستقبل الذي نرجوه ببساطة هو رؤية شاملة للمستقبل تضع في حسابها حقائق العلوم ومعطيات التاريخ والتجارب السابقة و تستقرئ طبائع الشعوب وحركة التجمعات الإنسانية وطبيعة النفوس البشرية كما تعمد إلى دراسة جوانب القوة والضعف في كل ذلك مع اعتبار قانوني القوة والانتخاب كأساس في حركة الحياة والأحياء وهذه الرؤية ينبغي ألا تكون غافلة عن المقارنة والقياس ووضع الاحتمالات التي لا تكاد تخطئ إلا بنسبة توضع في هامش الخطأ البشري الوارد والمعقول بطبيعة الحال0

وبالنظر في ديننا وهومصدر الحقائق وأصل العلوم والفهوم نجد أن مفهوم المستقبليات هو مفهوم أصيل فيه ولعل الكثيرين منا يمرون عليه مراراً وتكراراً وهم عنه غافلون! وهذا المفهوم يتمثل جلياً في ما جرى الاصطلاح عليه بعلامات الساعة وأخبار آخر الزمان0

ولأمر ما وضعت هذه العلامات في الطريق ولحكمة يعلمها الشارع سيقت هذه الأخبار للأسماع! وهي ليست في حقيقتها قصصاً للمتاع والتسلية بقدر ما هي أمارة من آمارات صاحب النبوءة صلى الله عليه وسلم وهو ما كان ويكون بإذن الله مع كل علامة تتحقق وكل خبر يقع, وفي علامات الساعة بشارات للمؤمنين بهذا الدين مهما ملأ الجور والظلم حياة الناس وفيها إغاظة للكافرين وأعداء الدين وفيها التحذير مما يكون ولابد من الفتن الطاغية ليأخذ كل امرئ أهبته فيحذر لنفسه واهله, كما أن فيها أيضاً أمر عظيم ألا وهو تحفيز همم المؤمنين للعمل والتغيير بما تحمله من التأكيد على دوران عجلة الزمان وإمكان حرف مسار التاريخ وإعادة ترسيم حدود الجغرافيا مما يدفع أهل الهمم والمرؤات من هذه الأمة إلى التصدر لهذا الدور عسى أن يكونوا هم صناع هذه الأحداث بأن يفتح الله على أيديهم فيجدد بهم الدين و يجعلهم أهلاً لولايته ونصرته في آخر الزمان0

فلابد إذاً أن يكون عمدة مرجعيتنا في هذه الدراسة المرجوة للمستقبليات هو ما أوحى به الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم من أخبار آخر الزمان وعلامات الساعة واشراطها لأننا وبالتأسيس على ما سبق نمتلك الحقيقة المطلقة والحق الصافي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه, وربما نتج من ذلك إعادة ترتيب بعض أولوياتنا ومحاولة الفرار من بعض أقدار الله إلى بعضها و التعجيل ببعضها الآخر وهذا من باب منازعة القدر بالقدر لا التمرد عليه0

وعلى سبيل المثال لا الحصر إذا كانت عصابات المسيحية المتصهينة في أمريكا وبريطانيا قد أنشأت وعضدت قيام دولة الكيان اللقيط في أرض فلسطين المباركة كمحاولة لتعجيل دورة الزمان وعودة المسيح التي لا تكون في معتقدهم إلا بإقامة دولة لليهود هناك وإذا كانت أمريكا قد احتلت العراق لأجل جبل الذهب الذي تصنع منه مراكب السيد المسيح والطرقات التي يسير فيها ـ كما يظنون ـ ولأجل توفير البترول الذي يمثل وقود الملاحم القادمة التي يسيطرون فيها على العالم ويقضون على أعداء المسيح كما يزعمون0

أقول إذا كان ذلك كذلك فينبغي أن تكون الأوضاع السياسية والاجتماعية والصراعات والملاحم التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم نصب أعيننا وكذلك يجب الترصد لما يمكن من المخططات الداخلية والخارجية التي كشفها لنا الشرع المعصوم وإفشالها وجعل ذلك من أولويات عملنا, ولابد أن تكون الأماكن التي نص الوحي على أنها ساحة المعركة هي في صلب اهتمامات الحركة الإسلامية وتركيز دعاتها وتجميع شبابها وينبغي أن تستعد أمة الإسلام لكل ذلك فتجهز أبدال الشام من أولي البأس الشديد و تخرج عصائب العراق وتجيش أولي الأحلام والنهى من أهل مصر و لابد أن تنصر طلائع خراسان من أصحاب الرايات السود كما يجب أن يرابط لهم هناك على كل ثغر فئة تجالدهم على أمر الله لا يضرها من خالفها ولا من خذلها حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك 0

وأخيراً إن ما ذكرت ههنا ليس من قبيل الترف العلمي ولا الفنتازيا القصصية بقدر ما هو أمر لازم وقضية حياتية توشك إن لم ننتبه لها سريعاً ان تأتي على ما تبقى من مقدرات أمتنا وتهدد حاضرنا ومستقبلنا معاً أو تهدد جيلنا نفسه بالاستبدال المخزي والمستذل وفق سنة الله الجارية في الخلق غير أن الظن بالله أن الوقت لم يفت بعد ـ على الأقل ـ لنغرس هذه المفاهيم في روع الأجيال القادمة إذا كنا لا نستطيع تحقيقه بأنفسنا0

 

والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل

 

د/ خالد سعيد عبد القادر
الكاتب: د/ خالد سعيد عبد القادر
التاريخ: 28/12/2006