وانتصرت غزة فهللوا وأبشروا

 

وانتصرت غزة فهللوا وأبشروا

كتب طالب شافع الحسيني في 5/1/1430

اليوم شاهدنا في التلفاز عرسا عظيما، كان نجمه الشيخ نزار ريان القيادي الكبير في حركة المقاومة الإسلامية حماس، والعالم والشيخ الكبير في العالم الإسلامي، والأستاذ الجامعي المرموق في علم الحديث، رحمة الله عليه، وقد كان عرس نجمنا الكبير عظيمًا، ربما ليتناسب مع حجم الرجل وقوة إيمانه فيما نحسبه، وربما ليقول لنا عمليا أنه قد ربّى بيته وعلّم زوجاته وأولاده أن لا قيمة لحياة بغير إيمان،

 فكأنِّي والله أعلم بهم قد صدقوا الله فصدقهم، كأنِّي والله أعلم بهم قد اتحدت أحلامهم، واتفقت رؤاهم وآمالهم، فاتحد مصير الجميع في عرس ولا أروع منه للمؤمن الذي يرى الأمور بنور ربه، ويحرص على لقاء الله.

إننا نرجو الله لا نرجو سواه، ونحب الله لا نحب سواه، ونتمنى لقاءه، لإيماننا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ»، فنحن نحب لقاء الله عز وجل، ونستطيل الحياة بعيدًا عنه، نستوحش الكون كله، نكرهه، لا نحبه ولا نحرص عليه، ونرى حياتنا في الأرض حياة رخيصة هزيلة لا نحرص عليها إلا لنقيم الإسلام، ونتلذذ بعبادة الله عز وجل، حتى يأذن لنا الرحمن بلقائه، فنجيبه سبحانه، ونذهب إليه، نلقى الأحبة محمدا صلى الله عليه وسلم وصحبه رضي الله عنهم، ونقتص هناك ممن ظلمنا وآذانا.

نستطيل الحياة ونستوحشها إذا كانت على غير طاعة الله وفي غير عبادته، كما نستطيلها جدا إذا ما رأينا الفرصة قد لاحت، وأوشكنا على اللقاء، فترانا نكره اللحظات، ونراها سنين طويلة، ونقول كما قال أحد أسلافنا العظام، وهو عُمَيْر بن الحُمَام، حين قال النبي صلى الله عليه وسلم في بعض المعارك التي خاضها المسلمون: «قوموا إلى جنة عَرْضُهَا السموات والأرض»، فقال عُمَيْرُ بن الحُمَامِ الأنصاري رضي الله عنه: يا رسول الله جنةٌ عَرْضُهَا السموات والأرض؟ قال: «نعم»، قال عُمَيْر: بَخٍ بَخٍ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ؟»، قال عُمَير: لا والله يا رسول الله إلا رَجَاءَةَ أَنْ أَكُونَ مِن أهلها، قال: «فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا»، فأخرج عُمَيْر تَمَرَاتٍ فَجَعَلَ يأكلُ منهن ثم قال: لئن أنا حَيِيتُ حتى آكُلَ تَمَرَاتِي هذه إنها لَحَيَاةٌ طويلةٌ، فَرَمَى عُمَيْر بما كان معه مِن التمر، ثم قاتَلَهم حتى قُتِلَ. رضي الله عنه.

«إنها لحياة طويلة» أن نأكل بعض التمرات القليلة جدا، فقد لاحت الفرصة وحان الرحيل، واللقاء الأجمل للمؤمن الواثق بربه، المحب لقاء الله.

 جرّد المؤمن نفسه من كل شيء، وأخلص نفسه لربه، عاش له، أحبه، أحب دينه، عمل له، فصارت الدنيا له مجرد وظيفة يؤديها، حتى إذا ناداه سيده أجابه إليه بنفس راضية مطمئنة. وهنا يكون النصر، وفي هذه اللحظة يكون الربح، فيربح المؤمن ثمرة عمله وتعبه في طاعة ربه، يلقى المؤمن ثمرة حبه لربه، ويلقى هناك أحبته، يلقى محمدا صلى الله عليه وسلم وصحبه رضي الله عنهم، وهذا هو الفوز العظيم، والنصر الكبير. وأرى أن غزة قد انتصرت في هذه الناحية، والله أعلم بها، بعد أن بدأت تسير في الاتجاه الصحيح نحو الله عز وجل، غير آبهةٍ ولا مكترثة بتخاذلات الناس وخذلانهم لها، وبدأت تقدم الواحد تلو الآخر من أبنائها في أعراس ولا أروع، فتشيع الشهيد فيما نحسبهم ونرجو لهم، تلو الشهيد، فنسأل الله عز وجل أن يتقبل منها أعراسها، وأن يرفع قتلاها، ويجعلهم شفعاء لها يوم تلقاه، وأن لا يؤاخذنا الله بخذلاننا لها ولهم. لكن هكذا الانتصار أن تعمل بمفردها دون اعتماد على أحد سوى خالقها، فهو وحده القادر، وغيره عاجز، وهو وحده الناصر وغيره يخذلها ويخونها، فحسنا اختارت غزة حليفها الذي لا يُقهر، وركنها الذي لا يضام من لاذ بجنابه، ومولاها الذي لا يهزم أبدا من استنصر به وطلب مدده وعونه وحوله وقوته.

واليوم أقامت غزة عرس شيخها في الحديث، الشيخ نزار ريان، والذي كنا نسمع عن علمه وأخباره الكثير والكثير، عبر وسائل الإعلام، وعبر الأبحاث والفتاوى التي ينشرها طلبته وتلاميذه في الناس، فكأنّي به قد وجد ضالته المنشودة في الحرب الصهيونية الدائرة على غزة اليوم، فانتهز الفرصة ليحيا من جديد فيما نحتسبه عند ربه. انتصرت غزة وانتصر نزار عندما واجهوا الموت بصدور عارية مكشوفة لا تكتسي بغير إيمانها وثقتها بربها وحبها له.

وانتصرت غزة حين حققت أمنيتها في لقاء ربها، ولم تسمح لجاذبيات الأرض وخونتها أن يشغلوها عن غايتها العظمي التي تسعى إليها، لتلقى ربها الذي آمنت به وأحبته ولأجله صبرت وقدمت أرواحها فداء لدينه. وانتصرت غزة عندما سددت عنا ضريبة الخذلان والسكوت والصمت والعار والخزي، فآثرت أن تقدم نفسها قربانا لدينها، حتى لا يلحق بنا عار المذلة والهزيمة الدائمة، فكأنّي بها تنادي علينا أن استريحوا في أماكنكم فأنا عنكم بدلا وقربانا، بل قد سمعتُ هذا بأذني وأنا أتابع الأخبار الواردة من هناك عبر وسائل الإعلام، فإذا برجل غزاوي يقول للعرب: نحن قربان لكم جميعا.

 عجبت من كلمة الرجل، كيف خذلانهم فسامحنا، وآثر أن يقدم نفسه قربانا يحمينا من مذلة الخزي والخذلان التي خضنا فيها حتى النهاية. وانتصرت غزة حين هدم الصهاينة مساكنها فافترشت الهواء، جعلته لها سكنا وكساء وغطاء، في ليل الشتاء الشاتي البارد، ما دام في جناب الله، ولأجله، وحرصا على رضاه. وانتصرت غزة حين جففت جراحها، ولملمت أعضاء قتلاها ودفنتهم في أرضها هي، ليكونوا دائما شواهد عزة وكرامة لها ولنا، وكأنّي بها وهي تدفنهم تنادي علينا وعلى من خذلها: أن انظروا قد أضأنا لكم اليوم قنديلا، فسيروا في نوره، وهي تعني بقنديلها الجديد واحدًا من أبنائها الذين قدمتهم قربانا ودفاعا عن دينها ووطنها، وارتقوا إلى ربهم، نحتسبهم ونحسبهم في الشهداء إن شاء الله عز وجل. وانتصرت غزة حين حرّكت في أمثالي من الكسالى همتهم للكتابة، فأحيتْ فينا قلوبا كانت قد ماتت، وزرعت بذرة خير كانت قد هربت منا، وبدأ الأمل يدب في أجسادنا من جديد، حتى كأنا بدأنا نرتوي ونرتوي، وكأن أوراقنا بدأت في الظهور تتمايل على أغصانها طربا بربيعنا القادم. انتصرت غزة فهللوا وأبشروا


الكاتب: كتب طالب شافع الحسيني
التاريخ: 07/01/2009