التكفيريون بحق ... والتكفيريون بغير حق

 

التكفيريون بحق ... والتكفيريون بغير حق


حامد بن عبد الله العلي

قوام التوحيد الذي هو أصل الأصول في دين الإسلام ، على أصلين ، لاينفك أحدهما عن الآخر :

أحدهما : الكفر بالطواغيت ، والأرباب ، والآلهة ، والأنداد ، وتكفير أولياء هذه الأربع وجهادهم .

والثاني : الإيمان بتوحيد الله تعالى وموالاة المؤمنين به .

ولم يتعرض هذا الأصل الأعظم في الإسلام ، لهجوم كاسح في تاريخ الإسلام كله ، كما يتعرض له الآن ، تحت راية ما يسمى العولمة الثقافية والفكرية .

ومن العجب ذلك التوافق المريب بين هجمة العولمة الثقافية والفكرية من خارج حصون الإسلام ، وهجمة الفكر الارجائي من داخله .

وأحسب أن السر الكامن وراء ذلك ، أن تلك العولمة إنما تنطلق أيضا من إرجاء ـ والإرجاء هو التأخير ـ أي إرجاء تمسك الأمة الإسلامية بمعتقداتها اليقينية وثوابتها المحكمة ، على أنها الحق الذي ليس بعده إلا الضلال كما قال تعالى ( فذلكم اللـــه ربكم الحق فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنّى تصرفون ) ، وذلك لحساب الثقافة العالمية الجديدة التي يبشر بها الغرب بقيادة أمريكا .

وهي ثقافة تخفي التعصب الصليبي ، غير أنها تظهر بمكر خفي أنها لا تعترف في المعتقدات الدينية بحق ولا ضلال ، ولاكفر ولا إيمان ، وأما غايتها النهائية ، فهي أن تتلاشى الحدود الفاصلة بين الإسلام وغيره لئلا يكون له فضل على ما سواه في قلوب المسلمين .

ولهذا تسير فكرة وحدة الأديان في ردف العولمة ، تبتغي أن تحذف من عقيدة المسلمين إطلاق كلمة الكفر على ما يناقض دين الإسلام من الأديان والمعتقدات الأخرى ، ولهذا تشمئز قلوب المبشرين بالعولمة من كلمة التكفير حقا كان أو باطلا، فحتى عبدة الأصنام ، والشياطين ، والفروج ، والنيران، لهم وجهة نظر ينبغي احترامها في نظر العولمة .

ومن هنا دقّ أعداء الإسلام ـ في ظاهر الأمر ـ طبول الحرب على التكفير الذي أمر الله به ورسوله ، لانهم علموا أن السياج الذي يحمي عقيدة الإسلام ويميزها ، بينما يدقّون في الباطن الصلبان على سيوفهم .

وكذلك الفكر الارجائي يتوافق ـ من بعض الوجوه ـ مع هذه الدعوة العالمية ويلتقي بها ، وذلك عندما تغبـّش أصوله الفاسدة رؤية الحد الفاصل بين الإيمان والكفــر .

فكأن العولمة هي المرجئة الأم الكبيرة التي تولدت منها ابنتها ، ظاهرة الإرجاء في العالم الإسلامي .

ومن مظاهر التوافق بينهما أيضا ، عندما يدعو الفكر الارجائي إلى تأخير واضعاف منزلة العمل من الإيمان ، حتى يصير الإيمان صورة بلا معنى ولا أثر ، ولهذا فعند المرجئة العصرية : مهما كان فعل الفاعل موغلا في الكفر ، فانه لا يخرج المسلم من الإسلام إلا إذا اقترن بالجحود والتكذيب بالدين ، فحتى لو ابطل مبطل الشريعة كلها ، حتى بلغ أن أقر الشذوذ الجنسي وأجاز بتشريع أن يتزوج الرجل الرجل والمرأة المرأة في أسرة لها مشروعية قانونية كاملة ، فلا يكفر فاعل ذلك ممن يدعي الإسلام ، ما لم يصرح بلسانه أنه مكذب لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ـ وليت شعري ـ أي تكذيب للرسول أعظم مما صنع ، وما هو الذي يريده أعداء هذا الدين غير هذه النتيجة العملية لإبطال الشريعة ، وهل يهمهم صرح بلسانه أم لا !!!

كما لا يخرج المسلم من الإسلام ـ عند المرجئة ـ تركه كل اتباع الرسول بجوراحه وراءه ظهريّا، والعولمة الثقافية كذلك تدعو إلى أن يدع المسلمون دولا وأفرادا ، حكاما ومحكومين عملهم بمعتقداتهم ، وألاّ ينهجوا في حياتهم كلها وفق عقيدتهم وشريعتهم كما أمر الله تعالى في القرآن ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) وقال ( ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولاتتبع أهواء الذين لا يعلمون ) .

فهذا تشابه آخر ، فلاجرم إذن تساوقت ظاهرة الإرجاء ذلك الفكر الفلسفي القديم في تاريخ الفرق الإسلامية في العصور الأولى ، مع الدعوة إلى العولمة.

وهذا كله يصدق قول القائلين : إن أفكار الفرق الضالة إنما يستحث ابتداعها، وقوع الأمّة تحت تأثير فكريّ لغزو خارجيّ ، أو اضطرابات سياسيّة ، أو اجتماعية تمر بها ، فتظهر هذه الآراء الضالة كالدمامل في الجسد المريض حينا من الدهر ، ولهذا فهي ليست ثابتة على أساس علمي راسخ .

بينما بقيت الأصول التي أجمع عليها السلف الصالح بحالها ، لم يؤثر فيها تقلب أحوال الأمة بين الضعف والقوّة على مرّ القرون ، لأنها مبنيّة على الكتاب والسنّة ، وقد تمثّل ذلك في خط أهل السنة والجماعة الذين ورد فيهــم الحديث ( لاتزال طائفة من أمّتي على الحقّ لا يضرّهم من خالفهم إلى يوم القيامـة ) .

وقد رسم علماء أهل السنة والجماعة ، معالم واضحة ، للحد الفاصل بين الإيمان والكفر ، وأشهروا سيف سلطان الشريعة بالتكفير بالحق على المرتدين ، وأعملوا في رقابهم سيف سلطان الزمان الحاكم بالشريعة ، فأقاموا للإسلام مهابته ،وحموه من عبث العابثين ، وهزؤ المستهزئين ، وسخرية الساخرين.

وهذا هو التكفير بحق الذي أمر الله به ورسوله ، ولاقيام للإيمان إلا به ، فمن لم يكفر من كفرهم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، عاد ذلك إلى إيمانه بالنقض ، لانه أبان بعدم تكفيره لمن حكم الله بكفرهم ، انه لم يعرف حقيقة الإسلام القائمة على الفصم القاطع بين التوحيد والشرك ، وأن الخلط بينهما اعظم نقض للإسلام نفسه .

أما التكفير بغير حق ، فهو الذي لا يقوم على أدلة الكتاب والسنة ، وهو نتاج الغلو الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم قائلا ( إياكم والغلو في الدين فإنما أهلك الذين من قبلكم الغلو في الدين ) .

والجنوح إلى العنف ـ بغير حق ـ ظاهرة بشرية متشعّبة ومعقّدة ، وبواعثها يصعب عدّها وحدّها ، فقد تكون اقتصاديّة تارة ، واجتماعيّة تارة ، وسياسيّة تارة ، ونفسيّة تارة ، أو مركبّة من هذا كلّه أو بعضه.

ومنها القيم الثقافيّة الضالّة ، سواء العلمانيّة ـ بالمفهوم الواسع للعلمانيـّـة الذي يشمل كل فكر لا يلتزم بدين كالفكر الماركسي الثوري على سبيـل المثــال ـ وتلك المنتسبة إلا الإسلام ، التي اتخذت تكفير المجتمعات الإسلامية بالعموم ، و العنف حلا ّوحيدا ومطلقا لتحقيق أهدافها.

والعنف أنواع، فمنه عنف القوى الكبرى ، وهو أشده ظلما ، وأعظمه فسادا في الأرض ، ومنه عنف الدولة على مواطنيها ، عنفها على نفوسهم ، وأرزاقهم ، ودماءهم ، وأعراضهم ، مما لا تكاد تخلو منه دول الشرق الأوسط ، ومنه عنف المنظمات ، وعنف الأفراد .

ومن تلك الصور : العنف المصنع ، وهو ذلك العنف الذي يتم تصنيعه في المعتقلات ، عبر منظومة من المستحثات الفكرية ، و النفسية ، التي تولد مجموعات يغرس فيها خيار العنف ، كحل أخير، ويائس ، تتشبع به عند بلوغ قاع المهانة ، والشعور بالظلم الاجتماعي ، والسياسي ، في أثناء جرعات التعذيب المنظَّم ، الذي يصاحبه الإذلال الديني ، أو القومي أو الإثني أو العرقي ... الخ .

وتتخذ بعض الدول هذا العنف المصنع ، وسيلة للتعاطي السياسي ، إما لتسويغ عنف الدولة الذي تلجأ إليه لإحداث توازن قوى في اللعبة السياسية ، أو لتصفية حسابات ، أو تصفية أحزاب منافسة، أو معارضة سياسية ، أو التلويح بالعصا لفتح الطريق لتمرير تغييرات ثقافية ، أو صفقات دولية سياسية ، خارجية أو داخلية ، تدر مكاسب شخصية ، أو ربما تكون تلك الصفقات مفروضة بضغوط خارجية ، أو لاثبات هيبة النظام ، أو لصرف الأنظار عن لعبة سياسية أخرى .

أما مجموعات العنف المصنّعة فإنها يتم التخلص منها بعد التضحية بها كما تحرق الأوراق في اللعبة السياسية .

ومن الأمثلة على العنف المصنّع ، فكر التكفير والهجرة ، الذي نشأ في سجون الثورة ، والتي سمح بعد مدة ، بإعلان ما كان يجري في غياهبها من انحطاط إنساني لامثيل له في وسائل التعذيب .

وقد تكون لدى تلك المجموعة في ظلمات ثلاث ـ الزنزانـــة والنفس العقل ــ اعتقاد راسخ أن الدولة كافرة ، إذ لايمكن أن يسمح بمثل هذا الجرائم الإنسانية في التعذيب من في قلبه مثقال ذرة من إيمان ، والمجتمع الذي تحكمه الدول الكافرة ويرضى بحكمها مجتمع جاهلي كافر أيضا ، وعليه فإنه يجب أن نتعامل مع هذا المجتمع برمته ، كما تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع الجاهلية الأولى ونظامها تماما ، سواء بسواء .

وذلك عبر خطوتين : الأولى بيان حكم المجتمع الجاهلي ، وذلك بالصدع بتكفيره جملة ، كما أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله تعالى : ( قل يا أيها الكافرون ) ( لكم دينكم ولي دين ) ومن هنا أطلق عليهم جماعة التكفير .

والثانية : الهجرة من المجتمع الكافر ، لتكوين المجتمع المسلم خارجه ، ثم الانقضاض على مجتمع الجاهلية بالعنف المسلّح ، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكون المجتمع المسلم ، ثم جاهــــــد أهل مكة حتى فتحها ، ومن هنا أطلق عليهم جماعة التكفير والهجرة .

وقد تكون الهجرة حسية أو شعورية ـ حسب اعتقادهم ـ بمعنى أن يجتمع المؤمنون بهذه العقيدة في هيئة مجتمع مصغر لا يعترف بغير نظامه الداخلي الخاص جاعلا كل ما سواه جاهلية عمياء ، حتى إن أمير الجماعة يحكم على المرأة بتطليقها من زوجها الذي لاينتمي إلى (جماعة المسلمين) وهي جماعتهم فقط ، ويزوجها إلى رجل آخر من المسلمين ، أي جماعتهم .

وقد وظّفت هذه الجماعة الضالّة نصوص القرآن والسنة التي نزلت في الإسلام والإيمان مقابل الكفر والجاهلية ، ثم الهجرة والجهاد ، وظّفتها لمنظورها العقدي المنحرف أسوء توظيف .

والحق الذي لاريب فيه إن المجتمعات الإسلامية ليست مجتمعات كافرة ، إذ كان فيها من مظاهر الإسلام الشيء الكثير بحمد الله تعالى ، لكنها مخلوطة بآثار الغزو الأجنبي على أمتنا ، وليست الآمة الإسلامية اليوم كما كانت الجاهلية الأولى ، وانما خالطها كثير من الجاهليّة المعاصرة ، فنحن بحاجة إلى ترميم الأمة وتجديدها ، وليس إيجادها من جديد ، والفرق بين الأمرين كبير جدا ، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم ( يبعث الله على راس كل قرن من يجدد لهذه الأمة دينها ) و لفظ التجديد يشعر بسلامة الأصل والأساس والأركان ، غير أنها بحاجة إلى تجديد وبعث ، وهكذا فشعوبنا لازال فيها إسلام وخير كثير ، لكنها بحاجة إلى من يجدد لها دينها .

ولهذا فان مراحل الدعوة ليست بالضرورة يجب أن تمر في نفس المراحل التي مر بها الرسول صلى الله عليه وسلم ، إذ كانت المقتضيات مختلفة ، فالعلماء والدعاة داخل الأمة الإسلامية يقومون بمهمة تجديدية وترميمية تستحث عوامل النهضة الكامنة في الأمة وتقودها إلى الكمال من جديد ، وليست مهمتهم إيجاد مجتمع مسلم من مجتمع كافر جاهلي مادام ميدانهم داخل الأمة الإسلامية ، ولم تزل سيرة علماء الإسلام تسير على هذا المنوال إلى يومنا هذا والله أعلم


الكاتب: حامد بن عبد الله العلي
التاريخ: 06/12/2006