بتـر ـ أيُوس!

 

بتـر ـ أيُوس!
حامد بن عبدالله العلي
 
كان يمشى متبختـراً ، ثاني عطفه ، ينظر بعين الكبر ، ويشيـر بيديـه بغطرسـة ، عندما أعلن أنه سوف يحقـّق النصر في أفغانسـتان !
 
أنصـح الجنـرال ( بتر ـ أيوس) أن يقـرأ _ قبل أن ( يُبتـر) في أفغانسـتان ويرجـع (آيسـا أيوسـا ) حتى من خفَّـيْ حنـين ، أن يقـرأ كتـاب بربارا توخمـان المعنـون ( عناد الحكام من طرواده إلى فيتنام ) ، وأن يركّـز نظره جيـّداً على هاتيـن العبارتيـن في الكتـاب : (لقد كان رؤساء الأركان ، ومستشارو الرئاسة الأمريكية ، آنذاك يحلمون إلى درجـة حالت دون أي تقدير واقعي لنتائـج تصرفاتهـم ) ، (وكانـوا يرفضون الإحاطة علما بمعلومات لا تنسجم مع توقعاتهم الذاتية ، إبتداءً من الظن باستحالة هزيمة دولتهم من جانب دولة من المرتبة الرابعة _ كما يصفونها _ مرورا بتقدير قواتهم العسكرية ، وكذلك قوات فييتنام الجنوبية بما يفوق حقيقتها ، انتهاءَ بالسقوط في التشبث المطلق بأوهامهـم ، كلّمـا ازداد وضوح المعالم المرئيـة للكارثه )$$$
،
 ( في العاشر من ديسمبرـ كانون الثاني 1979، استدعى وزير دفاع الاتحاد السوفياتي ديمتري أوستينوف ، قائد جيشه نيكولا أوغاركوف إلى مكتبه في موسكو, وأبلغه أن عليه أن يرسل فورا 80 ألف جندي إلى أفغانستان ، وذلك على أثر انهيار النظام في ذلك البلد , فما كان من أوغاركوف إلا أن استشاط غضباً ، ووصف هذه الخطوة بأنها متهورة ،
لكن أوستينوف - وفقا لرواية غدت اليوم مشهورة - قاطع رئيس الأركان قائلا " هل أنت بصدد تعليم المكتب السياسي ما يجب فعله "، قبل أن يقول له بعنف " واجبك ينحصر في تنفيذ الأوامر لا غيـر ".
،
وهكذا بدأت التجربة السوفياتية الوخيمة في أفغانستان , حيث فقد الجيش السوفياتي خلال عقد من الزمن الآلاف المؤلفـة من جنوده في حملة عسكرية سرَّعت بانهيار الاتحاد السوفياتي بأكمله , غير أنَّ التاريخ الأفغاني حافل بقصص تدمير الغزاة , فقد عانت قوات الإسكندر الأكبر خسائر مذهلة في المعارك الضارية التي خاضتها مع القبائل الأفغانية , كما تمكن الأفغان في القرن التاسع عشر من رد القوات البريطانية على أعقابها بعد أن خاضوا معها سلسلة من المعارك.
،
والآن حان دور التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية لمحاولة إخضاع ما يسميه الكاتب " مقبرة الإمبراطوريات ", فهل ستتمكن الولايات المتحدة الأميركية ، بعد ثماني سنوات من القتال في أفغانستان , وتحت قيادة رئيسها الجديد أوبامـا من أن تتحدّى مجرى التاريخ في هذا البلد ؟ )
،
هذه كانت مقدمة صحيفة فايننشال تايمز البريطانية للكتاب الشهير ( في مقبرة الإمبراطوريات ) للكاتب الغربي سيث جي جونز ، الذي صرح فيه بالحقيقة التي أخفتها أمريكا عن الجميع ، وهي أنَّ طالبان لم تهـزم في أول هذه الحرب ، وإنما تراجعـت لتعيد تنظيم صفوفهـا فحسـب .
،
كما بيـّن أنّ هذا هو سـرّ فشل الجيش الأمريكي وحلف الناتو في تحقيق أي شيء يُذكـر في أفغانسـتان .
،
حيث أنَّ حركة طالبان استطاعت وبصورة مدهشة أن تعيد تنظيم نفسها ، وتأمين مصادر وطرق الإمـداد لحرب طويلـة ، وحشد الدعم الشعبي المطلوب لإعادة الهجوم على طول الحدود مع باكستان ، وفي معظم الجنوب والشرق الأفغانـي .
،
كانت الحملة الصليبية على أفغانسـتان ، تتستـّر وراء شعار ( إرساء ديمقراطية مزدهـرة كبديل لأيدلوجية البـغض ) !
،
وخـلال بضع سنوات من رفع هذا الشعـار المخادع ، عانى الأفغانيون الأهـوال من أشـدّ حملات البغض الصليبي دمويـة ، وسط مستنقعات الدماء التي تمطرها القاذفات الأمريكية على المدنيين ، بهدف الحصول على أيّ نجاح يذكر لينقذ ماء وجه الإدارة الأمريكية في عهـد بوش ، فما زادهـا ذلك إلاَّ ثبـورا .
،
ثـمّ بعد هذه السنوات المتخمة بالفشـل ، جاء أوبامـا فأراد أن يستعرض عضلاته ، فأعلن قادته العسكريون في يوم السبت 13 فبراير 2010م ، أوسـع هجـوم على حركة طالبان منذ بدء الحـرب في 2001م ، تسانده عشرات الطائرات الحربية المزودة بأدقّ المعلومات المتوفرة من أقمار التجسّس ، وطائرات الإستطلاع ، واتجهـت الجيوش إلى ولاية هلمند .
،
ثم تبيـّن أن هذه الحملة إنـما كانـت على منطقة صغيرة تسيطر عليها طالبان تُسمى (مرجه) ، وهي منطقـة وسط عشرات المناطق تحت سيطرة طالبان وتشكل 67% من أراضي أفغانسـتان ، حتى قال  خنجري زعيم إحدى قبائل مرجه ، معبـرا عن استغرابه لضخامة العملية العسكرية الجارية : ( كما لو أنهم يريدون غزو بلد بأسره وليس إقليما بمساحة نـاد) !!
،
 وما لبـثت حتى باءت هذه الحملـة بالفشـل الذريع ، وتعجب المراقبون من تناقضات البيانات الأمريكية ، ومـن إثارتها للسخريـة ، وأخيـراً وصـف أحد المحلّلين العسكريين الغربيين الحصيلة قائلا : ( ومع نهاية العمليات العسكرية الرئيسية ،  لم يستطع الحلفاء تقديم حصيلة عن إنجازاتهم تتناسب مع حجم القوات المتدخلة ، حيث تحدثوا عن أقل من 110 قتيل في صفوف طالبان ،  وتبين فيما بعد وحسب وكالات أنباء فرانس برس ، ورويترز ، والبي بي سي البريطانية ،  أنّ من بين هؤلاء عشرات المدنيين ) !
،
ومن عجائب ما يجري في هذه الحرب التي هي من أعجب حروب التاريخ ، حيث استطـاع المحاربـون من حركة طالبـان بأسلحتهم البدائيـة ، إعـجاز آخر ما توصل إليه حلف الناتو من تطور عسكري في القدرات العسكرية ، التخطيطية ، والإستخباراتية ، والعملياتية ،
،
 من عجائب ما يجري أن حركة طالبان تنـدّد بالحظـر الإعلامي ، وبالقيود على الإعلام الذي يرافق سير المعارك ، والتي وضعها الإحتلال خشية إحراج القيادة الأمريكية وكشف سخرية دعايتها عن القدرة على سحق طالبان ،
،
حتى صرّح يوسف أحمدي المتحدث باسم طالبان في اتصال هاتفي مع وكالة فرانس برس : ( هذا يضرب تماما حرية الصحافة ، وحرية التعبير، لا يمكن تبرير هذه القيود بأي طريق ) !
،
وكشفت مصادر إعلامية غربية أنّ التعليمات بفرض الحظر صدرت من البنتاغون ولكن جعلـت بإسم حكومة كابل!
،
ودعت حركة طالبان بثقة مدهشة ، جميع وسائل الإعلام المستقلة في العالم إلى إرسال مراسلين إلـى مرجـه ، لكـي ( يروْا بأمّ أعينهـم ) ، من هي الجهة التي تسيطرعلى المنطقة ، وصرحـت الحركة أنه سيكون بوسع المراسلين ( أن يروا بأم أعينهـم الوضع ، وان ينقلوا الحقيقة إلى الناس ، ويظهروا من الذي يسيطر على المنطقـة ) !
،
هذا .. وقد جرب الإحتلال في أفغانسـتان كلَّ ما في جعبته من وسائـل ، من إستعمال مرتزقة بلاك ووتر ، إلى شراء ذمم بعض القبائل لإشغال طالبان _ تشير مراكز رصد أوربية أنّ إيران لعبت الدور الرئيس في هذه السياسة الخبيثة _  إلى خدعـة إعـلان المفاوضات السياسية مع مجاهدي طالبان لإحداث إنقسام فيهم ، والإلتفاف على أهداف الجهاد ، لكن ما لبـثت أن تحطمـت كلَّ هذه التحركات اليائسة أمام صخرة العزائم الطالبانيـة.
،
وأخيـرا فيبـدو أننـا سنشهد مفارقة تاريخية مذهلة بسقوط مايسمى النظام العالمي الخامس الذي توهّمـت فيه أمريكا أنها ستكون القطب الأوحد المسيطر على العالم ، برأسماليتها المتوحشة ، سنشهـد سقوطـه ، وإنهياره ، هناك تحت سفوح جبال الأفغـان ، وبأيدي أكثـر الجيوش بساطة ، غيـر أنها أعظمـها بأسـا وصمـودا.
،
 تماما كما سقطت إمبراطوريـة فرعون بعصا موسى عليه السلام التي كان يهشُّ بها على غنمـه !
،
وأنَّ عصـا حركة طالبان التي أسقطت جنرالات البنتاغون ، ستبـتر يـد ( بتـر _ أيوس) ، وسيرجع آيسـا حسيـراً ، وستتغير حينئذ نبرته ، وتتبـدّل مشيته ، فيـرتدّ متواضعـا ذليـلا بعد أن كان مستكبرا متعاليـا.
،
 وكما سرع الجهاد الأفغاني من سقوط الإتحاد السوفيتي ، فسيسـرّع هذا الجهـاد من سقوط تحالف الشـرّ بين الصليبية الحاقدة والرأسمالية المتوحشـة مصاصـة الدمـاء ،
،
وها قـد جاءت بشريات هذا السقوط بالإنهيار المالي الغربي الذي كلـما حاولوا تغطيته ، إتّسـع الخرق على الـراقـع .
،
( وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ، وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) .
،
والله حسبنا عليه توكلنا وعليه فليتوكل المتوكّـلون

الكاتب: حامد بن عبدالله العلي
التاريخ: 06/07/2010