الذب عن الدين الحنيف وكشف زيــــغ أهل التحريف الذين اتخذوا "الوسطية" شعارا للتزييــف
الذب عن الدين الحنيف وكشف زيــــغ أهل التحريف الذين اتخذوا "الوسطية" شعارا للتزييــف
حامد بن عبدالله العلــي
الحمدُ لله الذي أبانَ صبحَ الحق بوحيـِهِ ، فانقشعــتْ به ظُلُمات الباطل إنقشــاعـاً ، الذي يزيد من تمسّك بالذكر الحكيم سماعاً واتباعاً ، علواً وارتفاعــاً ، ويضع أهل الأهواء الذين أشربت قلوبُهم حبّ الدراهــم والمناصب فـي باطلهم اتّضاعـــاً ، كما قال سبحانه : " وكذلك نجزي المفتريــــــن " .
الذين يلبسوُن الحق بالباطل ، ويفتروُن على الله ورسوله ، ويكتمون الحق الذي جاء به رسوله ، ثــم ينهوْن عنه ، وينئوْن عنه نفــوراً ، قد ضـــرب عليهم الشيطان حجاب الغفلة ، وأقام عليهم سلطان الهوى ، يعدُهُم ، ويمنّيهم ، وما يعدهم الشيطان إلا غروراً .
يقولون على الله بغير علــم ، ويدسّون في دينـه أخبث الســمّ ، قد أصيب بهم في هذا العصــر الإسلام ، صراط الله المستقيم ، فهم نكبته الشعواء ، وداهيته الدهياء
يزيّنون للناس بما ران على قلوبهم المرتكسة في ظلمة الشبهات ، ورجس الشهوات :
أن التفريق بين التوحيد والشرك ، والإسلام والكفر ، الذي هو أعظم ما جاءت به الرسل ، وأوّل واجب على العباد ، وأولى ما تصلح به البلاد ، وتندحر به جحافل الشر والفساد ، مناقض لوسطيّة الإسلام ، وأن الداعين إليه الذين هم أتباع الرسل حقا ، مخالفون لنهج الأمـّـة الوسط !
وأن الدعوة إلى تحكيم الشريعة في كل صغير وكبير ، وجليل وحقير ، ونبذ ما سواها ، والكفر بما عداها ، غلوّ ، وتهوّر ، وتنكّب عن الصراط الوسط !
وأن جهاد الغزاة الساعين في طمس ماضي الأمة ، وسلب حاضرها ، والقضاء على مستقبلها ، فساد وتخريب ينافي النهــج الوســـط !
وقــد قال الحق سبحانه " فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كلّ من عند ربنا "
وياسبحان الله ، مابالهم عَمَدوا إلى ما فيه قوام هذا الدين ، فابتغوه عوجاً ، وإلى أصوله العظمى ، ومبانيه الكبرى ، فأثاروا عليها رهجــاً ، وقد جعلوا على مقصدهم هذا الخبيث زبرجــاً ، خداعا ومكر السيء ، ولايحيق المكر السيء إلا بأهله .
أيبتغون هدم هذه الأمة ، وتفريقها ، وتمزيقها ، وإفقادها أسباب بقائها ، وقوتها ، ووحدتها ؟!
أيسعون سعيا حثيثا في الحيلولة دون أن تسترد أمتنا مكانتها وبأسها ، وتعيد إنشاء حضارتها ، على أسس عقيدتها النقيـّة ، وشريعتها الطاهــرة ، وتأخذ في أسباب المجــد بالوحدة الإيمانية الجامعــة ، وترقى في مراقي العــز بالقوة الضاربة المانعــة ؟!
وعجيبٌ أمرهم غاية العجب ، وغريبٌ نشاطهم هذا المفاجيء المحموم ، الذي لايكلّ ولايملّ ، في الحديث عن هذه "الوسطيـّة" ، المصروفة عن معناها الحق ، في عبثٍ غــثّ ، انحدر علينا سيلُه فجأة بقدر هائل من المراوغة ، والتحايل ، واللتّ والعجن للنصوص الشرعية .
وأعجب من ذلك ، صرامتُهُم بعــزمٍ صلدٍ حديد ، وحماسهم الذي عن اليمين وعن الشمال قعيــد، كأن هذه القضية نازلة الإسلام الكبرى التي تبديء وتعيد ، بينما هم في إعراض تام ـ أو يكاد يكون ـ عن مصاب الإسلام ، فلم يعقدوا أيّ مؤتمر عام عن الحركة الصهيونية وأهدافهــا ، أو خطط الصليبية العالمية ، أو ندوات تناقش سبيل تحرير بلاد الإسلام ، وأحوال المسلمين في البلاد المحتلة ، وتفضح مكايد أعداء الدين !
غير أن نهاية هذا العبــث الملبّس كغيره ، بادية واضحة ، إلى شر غاية يمضي ، وإلى عاقبــة أسوء مكر يسعى ، وإلى أخـسّ موضع ينحــطّ .
ولكــن ياللأسى .. بينما تئنّ أمّتنا تحت وطأة إحتلال ، يَبتغي فيها أخبث ما يبتغيه عدوّ في عدوّه ، وما يخططه لها أشد فتكا مما فعله حتى الآن ، وعلى ما يبدو لكلّ ذي عينين ، أنـّه لم يدّخـر شيئـا من المكر ، والدس ، والتخابث في الخفاء في كلّ بلاد الإسلام التي علا عليها، ومن اقتراف الجرائم في العلن ، فيما اجتاحته جيوشه البربرية من أصقاع الإسلام ، غير أن ما تخفي صدورهم أكبر ، كمـا قال الحق سبحانه في محكم التنزيل.
وياللحســرة .. بينما هذه الأمـّة المبتلاة بتداعي الأمَم عليها ، كمـا لم يحدث مثلـه كما وكيفا في تاريخها ، تحت راية أشد الناس عداوة لها ، اليهود وأولياءهم ،
يُراد لهـــــا :
أن يتحوّل دينها الذي هو عصمة أمرها ، وروحها التي بها وجودهــا ، وقلبها النابض الذي به حياتهـا وبقاؤها ، وجهها الحضاري الأعظــم .
إلى صورة جديدة من العقيدة المخلوطة من "الصهيوصليبية" و " المادية الإلحادية" ، تنحرف بها مــن التوحيد إلى دركات الكفر والشــرك .
وصورة جديدة من الشريعة اللاّدينية تهوي بها في مهاوي الضلال والشقاء .
وصورة جديدة من الحياة البهيميـّة ، التي تعبد ظاهر الحياة الدنيا : المادة ، والمنفعة ، واللذة ، كهيئة الأنعام بل أضل سبيلا .
تحت شعارات كاذبة مــن الحرية ، والإصلاح ، وحقوق الإنسان ، ممزوجة بدماء واشلاء ضحايا الصواريخ ، والدبابات ، والقصف العشوائي كلّ يوم في المسلمين!
وواأسفاه .. بينما هي في أمس الحاجة إلى الصدع بالحق المجاهــر بهـدي النبوّة المستبين ، وشمـس الوحي المبين ، وسطوة الحق الساطع بنور القرآن ، المؤيّد بسواعد الشجعان الضاربة بقوة السنان ، لحماية جناب التوحيد ، ومقام الشريعة ، وقلعة الجهاد ، وحصن الولاء والبراء الذي يميّز الأمّة بعقيدتها وشريعتها ، عن ظلمات الشرك ، وسبيل الضلالة .
بينما هذا حالها لايخفى على قريب أو بعيــد ، أحدثوا لهــــا هذه الأحدوثة ، من التلبيس بتحريف الكلم عن مواضعه ، بوضع هذا الوصف الشريف ، لهذه الأمة العظيمة ، " الوسطية " في غير معناه الحق ، ليوافق أهواء الزعماء الخاضعة أعناقهم لفرعون العصـر .
هذا كل ما استطاعوا أن يقدّموه لأمّتنا الجريحة في محنتها ، وهي تعاني ما تعانيه من التدمير ، والهدم ، والدسائس ، والظلم ، والقهــر ، والإحتلال ، والاستبداد.
فكلما قال قائل بالحق ، أو قائم قائم بالقسط ، أو ذب مجاهد عن دين الأمة مبتغياً عزّها ، وعن اعراض المسلمين ، وأوطانهم ، رموه بالخروج عن " الوسطية" .
وأنت إذا تأملت ما يزمزمون به حول هذه الكلمة ، تبين لك أنهم يرمون إلى جعلها بمعنى العدول عن كل ما يسخط المستعمرين والمستبدين ، إلى ما يرضيهم ، فكأنهم جعلوها بمعنى أن تكون الأمّة في تيــه :
وسطا بين إيمانها ، والكفر .
وبين شريعتها ، وشريعة الطاغوت .
وبين هدي نبيها صلى الله عليه وسلم ، وضلالات المتهوّكيــن .
حتى إذا نزعت عنها ثوب الحريـّة الحقـّـة الذي ألبسها الإيمان ، ورداء العزّة الذي كساها الإسلام ، تحوّلت إلى مسخ مذلّل تحت أقدام طغاة العصر ، وسقطت في رقّ عدوّ شديد العداوة ، ماكر شديد المكر ، قد ملك من الخبرة في هدم الأمم ، وردها القهقرى ، ما شابه فيه أبليس نفسه .
كما يتبيـّن لك أنهم يدندنون حول تفريغ هذه الكلمة ، من معناها الحق الذي مـا استحقّت أن يصف الله تعالى به هذه الأمـّـة ، إلا بعـدمــا عزّت :
بالتمسّك بدينها ، وتميّزت به ، فَعَلَت على من سواها من أمم الضلال ، لاسيما أمتي الغضب والضلال .
ولمّا قامت بالجهاد ، آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر .
ولايخفــى أن الله تعالى أخبر أنه جعل هذه الأمّة أمـّة وسطا ، فجعله وصفا منه ، أضفاه عليها ، ممتنـاً به عليهــا، ولـــم يأت بصيغــة الأمر .
بينما لما جاء شأن تحميلها الأمانة ، أمانة العقيدة التي هي ميراث الرسل ، والشريعة التي هي منهاج خاتم الرسل ، وشأن الجهاد ، جهاد الكافّة ، ليدخلوا في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كافّة ، او يذعنوا لهيمنتها ، لما جاء هذا الشأن ، أمرها بذلك ، وحذرها أن تتقاعس عنــه ، أنها ستُسلب حينئــذ وصف الخيّرية ، وتبوء بالغضب كما باء به من قبلها .
قال الحق سبحانه : " إِلاّتَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاتَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ "
فقـد أخبر سبحانه أنها لاتستحق وصف الوسطيّة ، أي : الخيريـّة ، إلاّ إن قامت بحمل تلك الأمانة كما أمرهــا ربها أن تحملها .
فالوسطيّة منحة ، تنالها إن هــي نحجت في المحنة : وهي قيامها بحمل رسالتها ، وجهادهافي سبيلهــا .
ولهذا قال آمــرا : " وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمّةٌ يَدْعُوُنَ إلى الخَيْرِ وَيَأَمُرُوُنَ بِالمَعْرُوُفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ المُنْكَرْ وأُولئِكَ هُمُ المُفْلِحُون " .
ولما أراد وصفها بالخيريّة ، ربط ذلك بكونها قامت بهذه الأمانة .
فقال واصفــا : : "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ"
وتأمل ما قاله ابن كثير في تفسير هذه الأية ، حيث جعل خيريّتهم ، إنما تحقق بالجهاد ، الذي ينقذون به الناس من ظلمات الكفر ، ودكادك الجحيم ، فهذا أعظم ما تتحقق به خيريّة هذه الأمّـة لمن كان له قلب ، أو ألقى السمع وهو شهيــد .
قال ابن كثير : " يخبر تعالى عن هذه الأمّة المحمديّة بأنّهم خيرَ الأُمم فقال تعالى " كنتم خير أمة أخرجت للناس " قال البخاري : حدثنا محمد بن يوسف عن سفيان بن ميسرة عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه " كنتم خير أمة أخرجت للناس " قال : خير الناس للناس تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام.
ثم قال : " والصحيح أن هذه الآية عامة في جميع الأمة كل قرن بحسبه وخير قرونهم الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم كما قال في الآية الأخرى " وكذلك جعلناكم أمة وسطا " أي خيارا " لتكونوا شهداء على الناس " الآية . وفي مسند الإمام أحمد وجامع الترمذي وسنن ابن ماجه ومستدرك الحاكم من رواية حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل " وهو حديث مشهور وقد حسنه الترمذي .. وإنما حازت هذه الأمة قصب السبق إلى الخيرات بنبيها محمد صلوات الله وسلامه عليه فإنه أشرف خلق الله وأكرم الرسل على الله وبعثه الله بشرع كامل عظيم لم يعطه نبي قبله ولا رسول من الرسل .
فالعمل على منهاجه وسبيله يقوم القليل منه ما لا يقوم العمل الكثير من أعمال غيرهم مقامه .
كما قال الإمام أحمد حدثنا عبد الرحمن حدثنا ابن زهير عن عبد الله يعني ابن محمد بن عقيل عن محمد بن علي وهو ابن الحنفية أنه سمع علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء " فقلنا يا رسول الله ما هو ؟ قال " نصرت بالرعب وأعطيت مفاتيح الأرض وسميت أحمد وجعل التراب لي طهورا وجعلت أمتي خير الأمم " تفرد به أحمد من هذا الوجه إسناده حسن " أ.هـ
وذلك كما قوله تعالى" وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " .
قال ابن كثير رحمه الله : " يقول تعالى إنما حوّلناكم إلى قبلة إبراهيم عليه السلام واخترناها لكم ، لنجعلكم خيار الأمم لتكونوا يوم القيامة ، شهداء على الأمم لأن الجميع معترفون لكم بالفضل ، والوسط هاهنا الخيار ، والأجود ، كما يقال : قريش أوسط العرب نسبا ودارا أي خيرها
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وسطا في قومه ، أي أشرفهم نسبا ، ومنه الصلاة الوسطى التي هي أفضل الصلوات ، وهي العصر كما ثبت في الصحاح وغيرها ولما جعل الله هذه الأمة وسطا ، خصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب
كما قال تعالى " وجاهدوا في الله حق جهاده ، هو اجتباكم ، وما جعل عليكم في الدين من حرج ، ملة أبيكم إبراهيم ، هو سماكم المسلمين من قبل ، وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم ، وتكونوا شهداء على الناس "
وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يدعى نوح يوم القيامة فيقال له هل بلغت ؟ فيقول نعم فيدعى قومه فيقال لهم هل بلغكم ؟ فيقولون ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد فيقال لنوح من يشهد لك فيقول محمد وأمته قال : فذلك قوله " وكذلك جعلناكم أمة وسطا" قال والوسط العدل فتدعون فتشهدون له بالبلاغ ثم أشهد عليكم " رواه البخاري والترمذي والنسائي وابن ماجه من طرق عن الأعمش
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يجيء النبي يوم القيامة ومعه رجلان وأكثر من ذلك فيدعى قومه فيقال لهم هل بلغكم هذا ؟ فيقولون لا فيقال له هل بلغت قومك ؟ فيقول نعم فيقال من يشهد لك فيقول محمد وأمته فيدعى محمد وأمته فيقال لهم هل بلغ هذا قومه ؟ فيقولون نعم فيقال وما علمكم ؟ فيقولون جاءنا نبينا فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا فذلك قوله عز وجل " وكذلك جعلناكم أمة وسطا " قال عدلا" لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " أ.هـ.
والحاصل أن الوسطيّة هي الخيريّة ، وهي وصف تستحقه هذه الأمّة ، إنْ هي تمسكت بما جاء به نبيّها صلى الله عليه وسلم ، فلم تدع منه شيئا ، وفارقت به من كفرَ وضلّ.
وشهدت على الناس بالحق الذي جاءهــا به .
شهدت عليهم بــه في الدنيا ، أن حاجة البشــريّة إلى دين الإسلام أعظم من حاجتهم إلى الهواء والشمس ، وأنهم أبدا ضالون أشقياء حتى يدخلوا في هذا الدين .
وإن هي جاهدت لرفع راية هذا الدين على الأرض كلّها .
فإنْ هِيَ فعلت ذلك .
استحقت كمال وصف "الوسطية " فـي الآخرة أيضــا ، بأن يجعلها الله تعالى شاهدة على جميع الأمم من الأوّلين والآخــرين ، وما أشرفها من شهادة ، وما أعظمه من مقام .
وليست الوسطيّــة أن نُأمــر الأمّة ـ في هذا الوقت العصيب الذي لبس أعداؤها فيه جلد النــمــر ـ أن تتنازل عن الحقّ الذي اصطفاها الله به ، خشية أن يصفها أعداؤها بالتخلـفّ ، أو تخرّب تميّزها وخصائصها الحضاريّة ، ليرضى عنها أعداؤها ، ولن يرضوا ، أو أن تذلّ لعدوها وتسلّم إليه أمره حتى لاينعتها بـ"الإرهاب" ، بل هذا كله أحقّ بوصف الإنهزامية ، بل هو منطبق عليه تمام الإنطباق ، والوسطيّة بريئة منه ، فلا خير في أمّة يملي عليها مناحيس الروم ، واغتام الصليبيين ، وأخوة القردة والخنازير ، حتى حقوق نسائها ! ولاتستحق الخيرية أمّـة ترحّـب بجيوش تجتاح بلادها مهللة لها ، ثم تصف الذابّين عن عزتها بأقبح الأوصاف ، وتلاحقهم ، وتعاديهم أشدّ العداوة ، كارهة أن تتفلت من قيود العبودية لغيرها ، وأسوار الذل الذي ضربها عليها !