إنتفاضـة السّـفن ، وإنتفاضـة المـدن

 

إنتفاضـة السّـفن ،  وإنتفاضـة المـدن
حامد بن عبدالله العلي
،
لولا الميزان الذي أُمـرنا أن نحمـلُه حيـنَ نحكـم على أحوال أمّـتنا التي تعيش أصعب الأحـوال ، وأحلك الظـروف ، وهي في مخمصـة شديـدة تتضـوّر جوعـا إلى قيادة تعيد إليها عزَّتهـا ، لكان كـلّ هذا الفرح بإنـجاز ( إنتفاضة السـفن ) ، كفـرح عزبـة قـد طالت عنوستها بأحـلام العرس !
،
ألا لعـنة الله تعالى على هذه الأنظمـة العربيـة السياسية التي أوصلت الأمـّة من طول مواقـف الذلّ إلى مثل هــذه الحال : أرضنا المقدسة مغتصبة ، وغـزّة محاصرة ، والقدس تهـوَّد ، والصهاينـة يقتلوننـا بلا حساب ، ثـمَّ نحـن نطيـر فرحـاً بالكـلام ، ونقفـز طربـاً من البيانـات ، وما نملك من أمرنا إلاَّ التهديـد بإرسال المزيـد من حمـلات الإغاثـة ، لتؤُخـذ من عرض البحـر ! فحسبنا الله ونعـم الوكيـل.
،
ولكن لابأس ، فربّمـا كان من مستصغـر الشـررِ نـارٌ تلظـّى ، وربَّ حركة صغيـرة كان فيها بركـة كبيـرة ، وإنَّ الله تعالى لايضيـع أجـر من أحسـن عمـلا ، وإشعال شمعـة خيـر من لعـن الظـلام ، وطوبى لمستنهض النـاس للعمـل ، وتعس المحبِّطـون .
،
ثـمَّ إن الحـقَّ أنّنـا أمام فرصة تاريخـيّة عظيمة لإغتنـام ريـاح تغيّيـر مبشـّرة بقفـزة نوعيـة للأمـّة ،
،
وأضـلاع هذه الفرصة التاريخيـّة ثـلاثةٌ : $$$
،
أحدهــا : دخـول تركيا على المعادلـة الإقليمـية ، وأعني تركيا الثالثة ، فولادة تركيا الثالثـة _ الحقيقة هي ولدت مع نجاح حزب العدالة لكن كـأنَّ إعلان المولود تأخـر إلى حادثة قافلة الحريـّة _  بعد تركيا العثمانية الأولى ، والأتاتوركية الثانية ، ودعنا نسمّيهـا (تركيـا الجديدة) ، هو أعـظم حـدث فـي هـذا العقـد ، وسيكون لـه آثاره العظيـمة على المشهـد الإقليمي ،
،
 وهي جديدة حقـّا بمعنى الكلمة ، لكنـَّها جِـدَة فـي صالح الأمّـة ، وإن كانت لاتمثـل حتـَّى الآن _ بلاريب _ أهـداف الأمّـة ، فلايزال بيتهـا وبين هذا التمثـيل بـونٌ شاسع ،
،
غيـرَ أنَّ هذا لا يُخفـي حقيقة أنَّ صـوتَ الحنيـن للإسـلام المنبعـث من أسطانبـول تركيا الجديدة ، وصـل إلى كـلّ أذنٍ في أمـّة الإسلام ، وهذا هـو سـرّ الفـرح العارم الذي انتشـر في الشعوب الإسلامية .
،
ولاريب أنَّ ثمـَّة سببين لهذه الفرحـة الإسلامية بالدور التركي على ضعفـه بالمقارنـة مع مـا هو مطلـوب في الصراع مع الصهاينـة :
،
أولا : المقارنة مع الماضي الأتاتوركي الذي أمعن في العـداء للأمـّة ، فتركيـا الجديـدة يُنظـر إليها كمـا يُنظـر إلى من يتعافـى من سرطـان قـد إنتشـر في جسده ، فتعميـه فرحـة النظـر إلى هـذا التعافـي وكونه يزداد ، عن رؤية قروح الجزء الذي لايزال مصابــا .
،
ثانيـا : اليأس والإحبـاط المستولـيان على النفوس من دور الأنظمة العربية ، ذلك أنـّه رغـم إمكانات هذه الأنظمـة الهائلـة التي تؤهّلهـا لأداء أضعاف الدور التركي _ إذ هـي تقف على أرضيّة شعبيـّة لا تؤيـّد فحسـب بـلْ تمجـّد العـداء ، والمقاطعـة مع الصهاينـة ، ولاتعانـي ما تعانيه تركيا أردوغان من إرث العقود الأتاتوركية المظـلمة _ فهـي لاتكتفـي بالتخاذل ، بل تتعـدّاه إلى التآمـر علـى الأمـّة ، ولـو بإفسـاد الفرص التي تبعثها ريـاح خارجيـّة ، وهذا هو سبب لهث الأبواق الإعلامية المحسوبة على هذا النظام للتشكيك في الموقف التركي.
،
وبعبـارة أخـرى إنَّ الدور التركي بالنسبة لما يحيـط بـه ، ويقف أمامه من المعوقات الكبيرة ، يحُسـب بألـف إنجـاز من النظام العربـي ، فكيف إذا لم يكن للنظام العربي إنجـازٌ أصـلا ، حتى لقـد أغلـقت الدول العربية المتوسطية كلَّهـا شواطئها ، وسـدَّت موانئهـا أمـّا سفن الحريـة ، فلم تجـد لها من يأويها إلاَّ شواطىء إسطانبـول!
،
الثانـي : تراجع النفوذ الأمريكي في المنطقـة ، وضعف الكيان الصهيوني ، وأفـول نجـم الهيمنة الأمريكية المتحالفة مع الصهاينة ، وهذا السـرّ كمـا اكتشفه الإيرانيون ، فأخـذوا يبحثون عن نصيبـهم في الحيـّز الذي سيفرغ بعد الإنكفاء الأمريكي عن المنطقـة ، اكتشفه أيضـا حزب العدالة الحاكم في تركيا ، ولهذا بدأ يرمـي ببصـره شـرقـاً ، ويضارب بأسهمـه في أرض ميراثـه ، أرض الخـلافة حيث الشعـوب التي كانت تديـن بالطاعـة للسلطان التركي حامي الإسلام ، ورافع راية الجهـاد ، تمـتد من جاكرتـا إلى ساحل المحيط الأطلسي.
،
كما بـدأ بالتحلل من العلاقات مع الصهاينـة منذ 2002 م ، ولم يـزل يتزايـد إلى يومـنا هـذا ، حتى وصـل الأمر بالصهايـنة إلى إهانة السفير التركي قبل بضعة شهــور ، ويتوقع كثيـرٌ من المفكرين الصهاينة أن يفقـد الكيان الصهيوني صداقته لتركيـا وشيكا مادام حزب العدالة على عرش السلطة فـي أنقـره.
،
وأما الأنظمـة العربية فلاتـزال في مثلّثهـا المتخـلّف :
،
بين الخوف من التمـرّد على السيـّد !
،
وعقـدة العمالـة للأجنبـيّ المتفـوّق علينا دائـما !
،
وهـذه البلادة التي من طول ما ألفهــا الحكّـام العـرب باتت نراها على وجوهـهم ، مكتوبة بين أعينهـم ، يقرأها كـلّ مواطـن عـربـي قارىء ، وغيـر قارىء !
،
ولا أدلَّ على ما يعانيه الكيان الصهيوني من تدهـور ، وضعف ، وأنه يسير إلى الهاويـة ، من تعامله الغبـيِّ مع قافلة الحريـة ، منذ فقدانه القدرة على منع إنـطلاقها من الشواطىء التركيـة سياسيـا ، إلى فقدانه السيطرة على الموقـف في المياه الدولية عسكريا .
،
الثالـث : تنامي فكرة الجهـاد الإسلامـي ، وتربـُّع المقاومـة الإسلامية على عرش مجـدها ، وصعـود نجم الخطاب الإسلامي ، وإنتشـار صحوة الضمير الإسلامي في الأمـّة الإسلامـية .
،
فقد أثبـت الجهاد الإسـلامي أنـّه وحـده القادر على تحـدّي مشروع الهيمنة الصهيوغربية ، والنكايـة بـه ، والصمـود في حـرب طويلة معـه ، لايزيـده طول مدتـها إلاَّ شـدّة ، ولا وحشيـة عدوّه إلاّ شـراسـةً وإصراراً .
،
وليتأمل كلّ منصـف مـنذ إنطلاق ما يُسمى (الحرب الدولية على الإرهاب ) ، إلى يومنـا هذا ، كيـف أظهـر صمودُ المجاهدين من أفغانسـتان إلى غـزَّة ، مروراً بالعراق الذي مـرغ أنف الإحتلال الأمريكي بالوحـل ، والصومـال وغيرهـا ، كيف أظهـروا ضعـف العدوّ الصهيوغربي أمام عـزيمـة الأمـّة في روعة صدقها ، وإيثارهـا رضا الله تعالى ، على كل رغبـات الدنيا ، وحطامـها .
،
فلايزال العدوُّ الصهيوغربي يعتـرف بأنـّه لم يحـقـّق شيئا في هذه الحرب سوى زيادة أعداد المجاهدين ، وإشتعال جذوة الجهـاد ، وتوقـّد عزيمة التحـدّي في الأمـّة الإسلاميّة ، والحمـد لله رب العالمـين .
،
والمقصـود أنَّ هذه الأضـلاع الثـلاث :
،
 تركيا الجديدة ،
،
 وتراجع القـوّة الصهيوغربية ،
،
وإشتعال أوار النهضة الإسلامية ، سوف يمـر من بينهـا _ بإذن الله تعالى _ هذا التغييـر الذي نبشـر بـه أمّتـنا .
،
ولهذا فإنـَّه يجـب على النخـب المثقَّفـة _ لاسيما في السعودية والخليج العربي _ أن يقوموا بالدور المطلـوب منهـم لتعزيـز مشروع تركيــا الجديـدة ،
،
أعنـي قيادتها لمشـروع : أن يُصـنع القـرار هنـا في المنطـقة ولمصلحتها ، وليس في واشنـطن ، أو إيران ، أو تل أبيب ، أو أي مكان آخـر .
،
فإنّ هذا المشروع التركي الجديد ، هـو من أهـمّ مفـاتيح النجـاح ، ومن أسـرار التحـوّل الكبيـر الذي تنتظـره أمّتنـا ،
،
ذلك أن َّكـلّ مصائبنـا تنبـع من كون النظام العربي _ منذ سايكس بيكو _ قـد بـاع مصيـر أمّتنـا إلى أعدائها واشتـرى بـقاء الكراسي في ألعن صفقة بيع في التاريـخ !
،
ولكنَّ هـذا الدور الذي نطالـب بـه اليوم ، يحتـاج إلى حراك يبدأ من النخـب ، وينـزل إلى الشعـوب ، ويقـود الشـارع ، حـتىَّ يؤدي إلى إنتفاضـة المدن ، التي تستثـمر إنتفاضـة السـفن ، ليحـدث تغييرا مدروسـاً في معادلة المشهـد ، ويبعث فيه روح جديـدة .
،
وبعبارة أخرى .. إنَّ تركيا الجديـدة تقول لكـم :
،
 لقـد حركـَّنا المياه الراكـدة ، وفتحـنا لكم بابـاً طالـما حلمـتم بـه  ، وجعلنـا عنوانـه ( إلى فلسطين لفـك حصـار غـزة ) ، وتحت غطاء دولي ، وإنسانـي ، حتى لايكون لكـم أيَّ عـذر ، فهي قضية مجمـع عليها ، تقـف على أرض صلبـة .
،
فتحـرَّكوا لنقل المنطقـة _ لاسيما السعوديـة _ من الخندق الذي يقوده النظام المصـري فأدّى إلى وضـع كارثـي مأساوي بكلّ ما تحـمل الكلـمة من معنـى ،
،
وهـو وضـع أسوء ما فيه أنـّه لايستفيد منـه اليوم إلاَّ إيران التـي وجـدت فيـه سوقـاً رائجـة لبيـع شعاراتهـا المنافقة على حسـاب أهداف أمّتـنا !
،
من هذا الخنـدق إلى الخنـدق التركي الجديد الذي يريـد إعـادة الإرادة السياسية إلى عواصمنـا ، في تضـامن يقف في وجه الأطماع الأجنبيـّة ، رافعـا راية الإسلام ، الذي يجمع شعوب المنطقـة ويؤلّـف بينها ، ليعيـد إليها نهضتها الإسلامية .
،
ونوجـّه هنـا النداء إلى العلماء ، والمفكـرين ، والنخـب الثقافية عامة ، وإلى الخليجية خاصـة ، وعلى رأسها السعودية ، أن يبدءوا التحرك السريع ، لدعـم هذا المشـروع ، بفـتح الطـرق للتواصـل مع الشعـوب ، وإستعمال وسائـله السلمية ، لتحقيق الأهداف السياسية المنشـودة .
،
نقول ونوجه النـداء : إغتـنموا هذه الفرصـة قبل أن تحُكـم خيوط المؤامـرة فيحاط بتركيـا الجديدة ، وترجـع القهقهرى ، ولات حين منـدم .
،
ولعـل من المفيـد حشد مؤتمــر في إسطنـبول _ ولتشرف عليه الحملة العالمية لمقاومة العدوان على الأمـَّة _ وقـد إقترحتـه سابقـا ، يُجمع فيه المفكرون الأتراك الإسلاميـُّون ، مع المفكرين الإسلاميين في بلادنا العربية ، ويخـرج بتوصيات ولجان ، تتابـع التواصـل الفكـري لدعـم التحـوّل التـركي.
،
وليكن مواكبـا للمؤتمر الذي دعــا إليه الحـزب الحاكم في تركيا للدول التي نددت بالمجزرة الصهيونية ، بهدف عزل الكيان الصهيوني ، وحشد العالم ضده.
،
والله المستعـان ، عليه توكـلنا وعليه فليتوكل المتوكلـون .

الكاتب: حامد بن عبدالله العلي
التاريخ: 08/06/2010