الهـرّيــّات !!

 

الهـرّيــّات !!
.
حامد بن عبدالله العلي
.
من عجائب الموافقـات أنَّ صور الهراوات وهي تهوي على نوَّاب الشعب ! فتطحـن ضلوعَهم ، وتفلق رؤوسَهـم ، وتجلـد ظهورَهـم ، وهـم يستغيثـون ولا مغيـث ، ويستصخرون ( الديمقراطية ) ولات حين صريـخ !
.
قـد جاءت متزامنة مع مايسمَّى اليوم العالمي لحقوق الإنسان ! حيث صدرت بيانات يصعب حصرها من جمعيات حقوق الإنسان العالمية ، والعربية ، تندد بما آلت إليه أوضاع الحريات في البلاد العربية من واقـع مزرٍ يندى له الجبـين .
.
وهي وإن اختلفت صياغتها ، لكنها قـد اتفقت على بعض العبارات في المعنـى مثـل: ( نستشعر الأهمية البالغة لهذا المطلب الأساس الذي لا تطـوّر ، ولا تقدم لمجتمع من مجتمعاتنا إلاّ بولوج بابه ، والحفاظ عليه ، فلا معنى لوطن لا ينعم فيه أهله بالحريـّة ، والكرامة والاعتبار .. وبالرغم من تعدد مراصد حقوق الإنسان ، وتطورها خلال العقدين الأخيرين ، في كثير من البلدان ، إلاّ أن الأمر ما يزال يسير بصورة سلحفاتية في وطننا العربي ) !$$$
.
وقـد عددت الهيئات الحقوقية العربية الناشطة في أصقاع الوطن العربي ، أشكال مصادرة الحريات والتضييق عليها فذكرت منها : ( حبس كتاب ومثقفين وصحفيين في أكثر من بلد عربي بسبب ما كتبوه ! وحجب وإلغاء أكثر من صحيفة ووسيلة إعلام ! وضع قيود تشريعية على حرية التعبير ! ممارسة الرقابة بمستويات مختلفة على وسائل التعبير والمطبوعات لاسيما الرقابة القبلية على الصحف ! وأجهزة الإعلام !
.
واعتداء رجال الشرطة ، وعناصر الأمن بالضرب ، والإهانة على العديد من الكتاب والصحفيين ، والمثقفين الذين يؤدون واجبهم ، في تغطية الحدث ، وتنوير الرأي العام..!!
.
والمراقبة بمستويات مختلفة في بعض الأقطار على استخدام شبكة الإنترنت !
.
ومصادرة حرية التظاهر والاجتماع ، وجميع الأشكال السلمية للتعبير عن الرأي في كثير من البلاد العربية ) !
.
وبلاريب ووفق الإحصاءات الدقيقة أنَّ عامة مصادرة الحريات في الوطن العربي بل تكاد تكون 100% منها بسبب إنتقاد تعسُّف السلطة ، وإستبدادها ، والدفاع عن الحقوق العامة التي تنتهكها السلطات في الوطن العربي ضدّ شعوبـها .
.
ولا يبدو في الأفق أي أمل لتحسُّن الأوضـاع من داخل أنظمة الحكم في البلاد العربية ، وذلك للأسباب التالية :
.
أولا : لاأمل في أن تنتقل السلطات في الوطن العربي طوعا من عقليّة المالك للقطيع الذي يملك (العصا والشعير) ، إلى ثقافة الإشراك الكامل للشعب في السلطة ، وتحمـّل المسؤولية الكاملة أمامه ، كما في تراثنــا ( قال أحد العلماء للخليفة : السلام عليك أيها الأجيـر ) ، وفيـه : إن أحسنـت فأعينوني ، وأن أسأت فقوّموني ) ، ( أطيعوني ما أطعت الله فيكم ، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم ) ،
.
وأما الدساتير العربية ، فهـي وإن طرِّزت بعبارة ( الأمـّة مصدر السلطات جميـعا ) ، فإنَّ لسان حال السلطة يقول _ وفق التعبير المصري _ ( بلَّها واشرب ميّتها ) !
.
لأنـّه _ وبكلّ بساطة _ هذه نقلة لاتسمح بـه القوى الدولية المهمينة ، إذ من شأن هذه النقلة إشعـال جذوة النهضة الحضارية للأمـّة ،
ثـم إنّ هذه النقلة تعني التنازل عمـَّا يراه الزعماء (ممتلكاتهم الشخصية) ، وذلك يشمـل حتّى الشعوب التي ينظر إليها الزعماء على أنها حظائـر تابعـة لهم ، ولـ (حيواناتهـم المنوية) بعد وفاتهم ، أعني التوريث !!
.
ثانيا : إرتبط إطلاق الحريـَّات في الوطن العربي بهاجس الخوف على زوال الكرسي ، بحيث أصبحـا كاللفظين المترادفين ، وهذا ما يفسِّر المبالغة في القمع الوحشي ، ومـن الواضح أنّ هذه المعادلة ليست سوى إنعكاس لفشل السلطة في تحقيق آمال الشعوب ، فالنجاح لايخشى النقـد ، وهذا إنما هو نتيجة حتمية للتوريث ، فآمال الشعوب لاتتحقق إلاّ بمن تختاره هـي ، لـما تختاره ،
.
ولهذا السبب قـد أقيمت البيعة في النظام السياسي الإسلامي على هذا المبدأ .
.
وثالثا : لأنَّ المستفيدين من إستبداد السلطة في الوطن العربي من طوابيـر النفـاق السياسي ، أو الديني ، أو الثقافـي ، هـم أيضا يقاتلون بشراسـة دون السماح بالحريـّات ، فهـم يشكلون خطوط دفاع سياسيّة ، وثقافية ، ودينيـّة زائفة ، رديفة لأجهـزة الأمـن ، تحمي القمـع ، والإستبداد.
.
وصفوف النفاق هذه التي مع السلطة ، هـي أشبه بزوائد لحميّة متناثرة على جسم ضخم متخم بالفسـاد ، تتحرك معه ، أينمـا تحرَّك ، وتقتات على فساده .
.
وهـي أحيانا تتعرض لعمليات جراحية من السلطة نفسها ، تزيلها من جسدها ، وتأتي بغيرها ، بحسب الحاجة إلى التجديد ، وأحيانا هي تتقاتل وهي متعلقة بذلك الجسد الضخم ، و( تترافس ) فيسقط بعضها ، ببعـض ، إلى أن يأتي دورها عندمـا تتخلص منها السلطة نفسها ، أو أحد أفراد الهرم فوقهـا ، هرم الزوائد المتعلقـة بذلك الجسد الضخـم المتخم بالفساد .
.
أما الطابور السياسي المزيَّف ، فوظيفته أن يؤدي دور النقد اللطيف الخفيف المبطَّن بالتقديس ، ليحـل بذلك محـل مشاريع الإصلاح الحقيقية فيزيحهـا بأخذ مكانها ويُشغـل النشاط السياسي في المجتـمع ، ويستهلكـه في هذا النفق المزيـَّف ، الذي ينتهي بالنشاط السياسي إلى سرداب أسفل القصر الرئاسي نفسه !
.
وأما الطابور الثقافي المزيّف فوظيفته وضع مساحيق التجميل على قمع الحريـّات ، ومصادرة الحقوق !
.
وكم أضحكني تصريح أحد نوَّاب الحزب الحاكم في مصر بعد الإنتخابات المهزلة عندما قال : كنت أتمنـّى لو نجحت المعارضة بأعداد كبيرة في مجلس الشعب ، لكي يشكلوا ضغطا على الحزب الحاكم ، ويحدثوا توازنا تكمل به العمليّة الديمقراطية !!
 
والعجيب أنَّ هذا الدور التمثيلي السخيف يتكرر كثيراً في الأنظمة العربية ، رغم أن الذين يؤدّونه بإتقـان يعلمون أنـَّه لا أحـد يصدّقهـم !!
.
أما الطابور الديني المزيَّف فرسالته تلبيس الحريات لباس المروق من الدين ! ولف عمامة التقوى والعمل الصالح على التسبيح بحمد الإستبداد ، وإستعمال سلطان الترهيب الغيبي بعذاب القبور ، ونيران الثبور ، للزجر عن المطالبة بالحقوق ، وعلى رأسها حقّ نقد السلطة ، والمطالبة بتغييرها إذا فشلت في تحقيق آمال الشعوب .
.
إنـّه في الوقت الذي يطوِّر العالـم كلـُّه _ ضمن التطوُّر السريع للحيـاة في كلّ شيء _ أنظمته السياسية ، وإدارة الدول ، إلى حيث مزيد من الكرامة للشعوب ، وإستمتاعها بحقوقها ، وإيقافها جميع صور الإستبداد ، ووقفها لنزيف الثروات ، وذلك بفتح أبواب المعارضة السياسية ، وتوفير مؤسسات المجتمع المدني ، وإلـغاء القيود على الحريـّة لتستطيع المعارضة السياسية أن تصل للشارع ، فإما أن يقتنع بمشروعها ، فيوصلها إلى القمـَّة ، أو يسقطها فشـلها ، لا هراوات الأمـن !!
.
في الوقت الذي يحدث هذا كلُّه للعالم ، يزداد قمع الحريات في بلادنا العربية ، ويستمـر حرمان شعوبنا مما تتمـتَّع به شعـوب العالم من حولنا!
.
وبهــذا فإنَّ الأنسب أن يقال ( الهريـّات ) ، إذ كان لسان حال النظام العربي هو إستبدال الهاء بالحاء في الحريـَّات ، فتكون مشتقة من (هرَرَ) ، أي كره الشيء ، فالحقُّ أنـَّه لا شيء أبغض إلى النظام العربي من الحريـّات التي تسمح بنقده ، وتقويمـه !!
.
وللإنصـاف فإنـّه يُستثنى من ذلك ، عشقهم الهستيري لحرية الدعارة ، والرذيلة ، وتجارة الخنـا !!
.
وختاما فإنَّ التفاؤل الذي نبديـه دائما بأنَّ التغيير قادم لامحـالة ، هـو _ بحول الله تعالى _ في محلّه ، لكنه سيأتي بما أودعه الله في قـوى الطبيعـة ذاتهـا ، الآخذة في التطـوُّر ، و هي سنن الله تعالى في خلقه التي لاتتبـدل ، وهو ما يبشـِّر بنهضة شاملة قادمـة ، تنطـلق فيها أمَّتـُنا نحو آفـاق حضارية توحِّدها ، وترقى بها إلى قمة التفوُّق الحضـاري العالمي بإذن الله تعالى .
.
والله المستعان ، وهو حسبنا ، عليه توكّلنا ، وعليه فلتوكـّل المتوكـّلون

الكاتب: حامد بن عبدالله العلي
التاريخ: 15/12/2010