حامد بن عبدالله العلي
عندما تولى كرومــر الحاكم البريطاني لمصر إبان الاحتلال مهمته ، كان همُّه الأكبر أن يحدث اختراقا في العقيدة الإسلامية ، ذاكرا قول من تقدمه ممن تعاملوا مع هذه الأمّة ، ومن أشهرهـــــم :
( لويس التاسع ) ملك فرنسا ، فإنه بعدما هزم جيشه في مصر، وسجن في سجن المنصورة ، وأفرج عنه ، أخذ جولة في بلاد الإسلام ، فأقام في تونس ، والقدس أعواما ، ثم عاد إلى فرنسا فنصب قديسا ، فكتب في مذكراته مستفيدا من خبرته التي اكتسبها من العيش بيـــــن المسلمين : ( إنه لا سبيل إلى السيطرة على المسلمين عن طريق الحرب والقوة وذلك بسبب عامل الجهاد في سبيل الله .. وأن المعركة مع المسلمين يجب أن تبدأ أولاً من تزييف عقيدتهم الراسخة التي تحمل طابع الجهاد والمقاومة .. ولا بد من التفرقة بين العقيدة والشريعة ).
وأما زويمر فقال نقلا عن كتاب : ( الغارة على العالم الإسلامي ) ( تبشير المسلمين يجب أن يكون بواسطة رسول من أنفسهم ، ومن بين صفوفهم ، لأن الشجرة يجب أن يقطعها أحد أعضائها ) .
وهكذا كان كرومر حريصا على أن يجد من بين المسلمين ، من يجعل في فيـه ضلالته ، ثم يجعله ينطق بها بلسان عربي ، وسحنة عربية ، فوجد في محمد عبده وغيره ضالته ، واستطاع بواسطتهم أن يخترق إلى القدر الذي كتب له ، فلـم يتعداه ، فلن يعدو على أية حال قدره ، وقد كان كرومر لا يخفي إعجابه بأن محمد عبده هو المجدد الذي يحمل أفكار كرومــر نفســه !!
وفي هذا الزمن والامــّة ترزح بين الاحتلال الصليبي لأفغانستان والعراق ، فلايمر يوم إلا ويهرق هذا احتلال البغيض دماء أبناءها ، ويحارب دينها ، ويسرق مستقبلها وثرواتها ، وبين الاحتلال الصهيوني لفلسطين الذي يقترف كل ساعة مثل أو أشد مما تقترفه القوات الصليبية في أفغانستان و العراق ، وبين الهيمنة المشتركة لشيْطانيْ الصليب ونجمة الصهاينة ، الهيمنة على ما بين العراق وفلسطين وما حولهما .
يحتاج بريمر ورؤساؤه في البيت الأبيض ، إلى لمســة من شيوخ الدين ، ليكملوا خطّتهم الشيطانيّة ، بل هم في أمس الحاجة اليوم ، إلى من يقول للمسلمين : إنـه لاسبيل إلى مقاومة خارطة الطريق الكبرى التي تهدف إلى التغيير الصليبي الكبير في المنطقة العربية ، ولا إلى مقاومة خارطة الطريق الصغرى التي تهدف إلى إتمام تهويد فلسطين ، لاسبيل لمقاومتهما ، لان مقاومتهما هو منهج الخوارج والتكفيريين !! أو لأن وجود واستمرار هاتين الخارطتين هو أخف الضررين!! أو لأن الامة قد غدت في مثل العهد المكي الذي لايجوز لها فيه إلا الرضا بواقعها وتركه يمضي حتى يبلغ منتهاه !! ، أو غير ذلك من الإفك المفترى الذي لايقوله إلا من جعل دينه عرضـــا يباع ويشترى .
وقد وجدوا ضالتهم هذه المرة ليس في عمامة محمد عبده ، ولكن في المِشلح المُذهّب ، ومادام الغرض حاصــلا فلا يهم الفرق ، وإذا كان المشلح المُذهّب سيفسح الطريق أمام المشروع الصليبي الصهيوني ، ويضطر الإسلام إلى أضيق الطريق ، فمرحبا بهذا المِشلح وألف مِشلح .
وقد كنت قد كتبت مقالا قبل نحو عام بعنوان ( أنواع المفتين ) لم ينشر في هذا الموقع ، وهذا آوان نشره ، مع بعض الزيادات ليناسب التغيّرات ، وقد قلت فيه : إن المفتين أنواع :
أحدهم: آتاه الله العلم والحكمة والصبر: فهو يصدع بحكم الله تعالى ، هدفه أن يحق الحق ويبطل الباطل، لا يخاف لومة لائم، ويصبر على الأذى إن أسخط جوابه الناس: حكاماً ومحكومين، محتسبا ثواب الآخرة، لكنه أيضاً: يضع الحكمة مواضعها؛ لأنها لا تثمر إن جعلت في غير موضعها، كما لا تؤتي الشجرة الطيبة ثمارها إن زرعت في قيعان ، التي لاتمسك ماء، ولاتنبت كلأ، ولهذا فقد يسكت عن الجواب حيناً؛ ليصدع به حيناً آخر في موضع هو مقتضى الحكمة، فلم يسكت عن الحق خشية الناس، ولا اشترى بآيات الله ثمناً قليلًا، ولكنه كالمجاهد الذي يفر ليكــــــــر؛ ليكون وجه الحق أجلى، وقوته أشــــــــــد.
وقد يسكت عن الجواب تارة لعلمه أن طالب الجواب، سيجعله سيفاً مسلطاً بالظلم على أهل الحق ، وتوظيف كلمة الحق لارادة الباطل سنة من سنن الظالمين- .
والثاني: أوتي العلم والحكمة ولكنه لم يؤت الصبر: غير أنه لا يقول الباطل إن عجز عن قول الحق، بل يترخص بقوله:}لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [286]{ [سورة البقرة] ويفرح إن وجد الأول يقول الحق، فيدعو له بظهر الغيب: اللهم ثبته إذ وهبته من فضلك، اللهم طهر قلوبنا من الحسد .
وثالث: أوتى علماً ولم يؤت تقوى الله والحكمة: وقد رسموه مفتياً ليؤدي وظيفة حددت له سلفاً، فهو يتخبط بعلمه، فيقول الحق في غير موضعه، ويضع الباطل موضع الحق، فمثله كمثل الذين قال الله عنهم:}وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ[42] {[سورة البقرة] ... إنه ينطق بلسان الشيطان، وهذا إنما هو تاجر، لكنه أخسر التجار صفقة ، لأنه يبيع دينه بعرض من الدنيا، وما أسرع ما يكتشف الناس كساد بضاعته وزيفها؛ فيهجر ملوماً محسوراً، فلا يبقى له إلا متاع الدنيا القليل، يلهو به حتى يلقى الله تعالى ساخطاً عليه إن لم يتب .
والرابع : جاهل منافق، أو في قلبه مرض ، جمع بين الجهل وسوء النية: فهو كشاهد الزور الذي يشهد بلا علم، فشهادته للدراهم لا للحقيقة، لايهمه أن يعلم الواقعة، بقدر ما يهمه سعر شهادته في السوق، وما أكثر هذا النوع وما قبله ، في عالمنا المعاصر، وما أحرص السلاطين عليهم، فسوقهم رائجة هذه الأيام، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
هذا ويكثر الطلب هذه الأيام التي تشن فيه حملة هجوم على الإسلام ، تحت ذريعة الحرب على (الإرهاب )، يكثر الطلب في السوق الأمريكية ، على النوع الثالث والرابع- لا كثرهم الله تعالى- وقد استحوذ عليهم الشيطان ، حتى اتخذ منهم جنودا له ، وقد هوى بهم الشيطان إلى نهاية الخذلان، فزينوا بفتاواهم أن يسفك عبدة الصليب ، وأولياؤهم ، دماء المؤمنين، الصالحين، المجاهدين في سبيله، بحجة أن من حق الكفار أن يستردوا الحق، ويقيموا العدل، أو أنهم إنما يصلحون أمر الإسلام بقتل الخوارج التكفيريين !! سبحانك هذا بهتان عظيم، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا .
أفيكون حقاً في دين الله تعالى، أن يسلط أهل الصلبان على أهل الإيمان؛ ابتغاء إطفاء نور الإسلام ، و الصد عن سبيل الله ، بالحديد والنار والدمار، وسفك دماء المسلمين، واحتلال أرضهم، وإقامة دول المنافقين الموالين للكفر وأهله ونشر الفساد في الأرض، و استبدال شريعة الرحمن بشريعة الكفــر والشيطان .
فأي باطل، وأي صد عن سبيل الله أعظم من هذا، صدق صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ قَالَ:[ إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ]رواه أحمد وغيره .
وصدق القائل:
وهل أفسـد الدين إلا المـلـوك وأحبــــار ســـــــوء ورهبانهـــــا