حامد بن عبدالله العلي
تعد الانتفاضة التحدي الأخطر للكيان الصهيوني ، لأنها العامل الأقوى الذي يستنزف اقتصاده ، ولأنها السبب الرئيس للإنقسام السياسي والاجتماعي اليهودي ، ولأنها تتفجر داخل حدود الكيان الصهيوني ، حيث تتداخل المستوطنات والأراضي المحتلة ، وينعدم المدى الذي يسمح للكيان الصهيوني بالاستفادة من تفوقه العسكري ، أو الردع النووي ولهذا فإن استمرار الانتفاضة ورقة رابحة في كل الأحوال ، ولكن ماهي الاحتمالات المنطقية والواقعية لمستقبل الانتفاضة ؟ هذه محاولة لاستقراء الاحتمالات المستقبلية :
الاحتمال الأول : أن تزداد نار الانتفاضة اشتعالا مع مرور الأيام ، فيرمي الجيش الإسرائيلي بثقله في حرب غير متكافئة على الشعب الفلسطيني يتم فيها قصف وتدمير بنية مؤسسات السلطة الفلسطينية ، وخطف وقتل واغتيال قيادات الانتفاضة وإلغاء عملية السلام نهائيا ، وإعادة احتلال مناطق الضفة الغربية وغزة ، وإجبار الشعب الفلسطيني على الخضوع لسلطة الاحتلال ، وقبول الإقامة في الكيان الصيهوني في صورة حكم ذاتي في أحسن الأحوال ، او الهجرة منها إلى الأبد 0
وتكون عقيدة الكيان الصهيوني في هذه الحرب هي الدفاع عن الوطن اليهودي ، فترجح القيادة السياسية للكيان الصهيوني المجازفة باحتمال جر المنطقة إلى حرب إقليمية على السماح بمحاصرته ، وتعريضه للضغط والإحراج الدولي المستمر مع استمرار الانتفاضة ، وإلى التفكك الداخلي والاستنزاف الاقتصادي وتوقف الهجرة اليهودية إليه بل في هروب اليهود منه ، ويتوقع أن يلجأ الكيان الصهيوني إلى التلويح بقوته النووية لردع الدول العربية فيما لو عزمت أي دولة عربية على توسيع نطاق الحرب ، كما يهدد بقصف عواصم عربية بعيدة عنها بالصواريخ النووية ، لو تدخلت دولة عربية بشكل أو بآخر في هذه الحرب ضد الكيان الصهيوني ، بل يجعل هو الخيار الأخير الضرورة 0
ويتفرع عن هذا الاحتمال :
الاحتمال الثاني : وهو فيما لو قدر أن هذا الخيار الأخير ـ أعني استعمال الكيان الصهيوني لقوته النووية ، لو قدر أنه وقع فعلا ، وهو أمر مستبعد جدا ولكننا ورده هنا ، لحصر الاحتمالات الممكنة ، لكن لو قدر وقوعه ، واتسع نطاق الحرب ، وجر ذلك إلى استعمال دول عربية لأسلحة دمار شامل ، فان ذلك قد يؤدي إلى تحول الحرب إلى العالمية ، مما يفجر كارثة كونية هائلة لم يسبق لها مثيل في العصر الحديث ، لان حربا تستعمل فيها أسلحة الدمار الشامل ، في هذه المنطقة الاستراتيجية والحساسة جدا في وسط نقطة التقاء المصالح العالمية ، تعني حصول كوارث متعاقبة تحدث تحولا تاريخيا جسيما ، ولو سمحنا أن يشطح بنا الخيال إلى ترجيح تطور الأحداث إلى هذا النحو ، فلا يعلم إلا الله تعالى كيف ستكون صورة مستقبل العالم بعد ذلك ، والعجيب أنه يسود اعتقاد لدى طوائف دينية يهودية ، وفي أوساط شخصيات سياسية غربية أيضا ، إلى أن هذه الحرب العالمية ، واقعة لا محالة حول فلسطين ، ببنوءة توراتية ، وأنها تسمى معركة ( الهر مجدون ) وأنها تسفر عن هزيمة حاسمة وأبدية للعرب والمسلمين ، ثم تغير دراماتيكي في العالم فيما يسمى نهاية التاريخ ، وتعتقد تلك الطوائف بانتصار نهائي وشامل وعالمي لليهود ، ولاريب أن هذه الخزعبلات ليست سوى أماني كاذبة ، يزين بها الشيطان لأوليائه اليهود وأعوانهم كفرهم وضلالهم وتعاونهم على الإثم والعدوان ، قاتلهم الله ، وأن الوعد الحق هو الذي وعده المؤمنين بالنصر والتمكين لعصبة الاسلام في آخر صولات الحق 0
الاحتمال الثالث : أن تستمر الانتفاضة حينا من الدهر حتى يخبو بريقها ، ويصيب الشعب الفلسطيني الإعياء والتعب ، وتحاصره الظروف الاقتصادية الصعبة ، ويضعف الحماس الذي يشكل قوة الدفع بالنسبة للانتفاضة ، يضعف تدريجيا ، فيصبح خبر الانتفاضة في وسائل الإعلام عديم التأثير ، ويخذل العالم العربي الشعب الفلسطيني ، فينساه العرب ، فيضطر الفلسطينيون إلى القبول كرها إلى التنازل عن حقوقهم والقبول بمشروع شارون اللعين ، وهو الرضى بدولة فلسطينية منوعة السلاح ، وبدون القدس الشرقية بشرط التنازل عن حقوق اللاجئين ، وتمرير مسألة المستوطنات حسب شروط الكيان الصهيوني ، وقد يمنح المسلمون حرية الصلاة في المسجد الأقصى تحت سلطة الكيان الصهيوني لتهدئة الأوضاع إلى حين 0
الاحتمال الرابع : أن تستبعد إسرائيل خيار افتعال حرب ، وتلجأ إلى التعامل مع الانتفاضة في نطاق محدود كما في الانتفاضة الأولى ، وتستمر الانتفاضة تؤتي ثمارها ، حتى تضطر اليهود إلى انتخاب حكومة إسرائيلية مستعدة للتنازل تحت ضغط الواقع الجديد الذي أفرزته الانتفاضة ، فيعطى الفلسطينيون دولة عاصمتها القدس الشرقية كاملة مع الضمانات المؤكدة لأمن إسرائيل ، فتكون دولتان لشعبين ،ويتوصل الفريقان إلى حل وسط بالنسبة للاجئين والمستوطنات ، ويطبع الكيان الصهيوني العلاقات مع الدول العربية وتهدأ المنطقة نسبيا إلى أجل هم بالغوه لا يعلمه إلا الله تعالى ، وهذا الاحتمال مستبعد جدا ، ذلك أن المعطيات على أرض الواقع تفيد أن التطرف اليهودي لن يسمح لقيادة سياسية أن تتنازل عن كون القدس عاصمة للصهاينة 0
هذا وقد استبعدنا الاحتمال الخامس أيضا : لأنه احتمال غير وارد في الحسبان العربي ، وهو أن تجتمع الدول العربية فتهدد الكيان الصهيوني عسكريا ، مع منحه مهلة تحت الحصار الاقتصادي عليه وعلى من يقف معه من الدول ، والمقاطعة السياسية الشاملة ، مما يضطره إلى التنازل عن تعنته ، ومنح الفلسطينيين دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس ، أو تخوض الدول العربية فعلا حربا ضد الكيان الصهيوني ، تسفر عن وقف لإطلاق النار مشروط بقبول دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس حسب اتفاق أوسلو والقانون الدولي ، فهذا الاحتمال بعيد المنال للأسف مع أنه هو المفترض أصلا بحسب ميثاق الجامعة العربية ، وإلا فالشريعة الإسلامية تفرض شاملا لتحرير كل الوطن الفلسطيني ، وتحرم التنازل عن شبر منه0
وعلى أية حال فإن الواجب أن لا يسمح للانتفاضة بالتوقف أو التقهقر أو الضعف ، لأنها هي وحدها الخيار المصيري والممكن في إطار الظروف الراهنة ، وأن يكفلوا للشعب الفلسطيني ما يحتاجه لاستمرار جهاده ضد اليهود ، والواجب أن يتم تشكيل لجان متخصصة من الدول العربية والاسلامية ، تتابع الانتفاضة اقتصاديا واجتماعيا وإعلاميا وماديا ومعنويا ، ولايجوز بحال من الأحوال أن تترك الانتفاضة لفوضى الشارع العربي الذي يتظاهر عاطفيا ثم لايلبث أن ينسى كل شيء ، كما حدث عندما خرجت المظاهرات إثر مقتل الطفل محمد الدرة مما أدى إلى انعقاد اجتماع القمة العربية ثم عاد كل شيء إلى ما كان عليه 0
ذلك أنه إذا لم يتم توظيف هذه المشاعر الحماسية التي تغمر الشارع العربي والإسلامي وقتيا ، إذا لم يتم توظيفها وتطويرها إلى عمل مؤسسي مدروس في الخطوات والمراحل والأهداف ليتحول إلى جماعات ضغط مستمرة على الدول العربية ، تدفعها إلى دعم الانتفاضة ، إذا لم يتم ذلك فإنه سرعان ما يتلاشى كل شيء ، ويعود إلى نقطة الصفر من جديد ، لاسيما والزعيـــم اليميني المتطرف الذي يقود الكيان الصهيوني ( شارون ) يصرح كل يوم بأنه سيشن حرابا لاهوادة فيها على ما أسماه الإرهاب ،في الوقت الذي أمن به من سماع تصريحات مضادة من الدول العربية توقفه عند حده .
وأخيرا فإن الأيام القادمة تحمل مفاجآت كثيرة ، فهي كالبركان الذي يوشك أن ينفجر في أي لحظة ، وزعيم اليهود يطرح مشروعه القائم على منح الفلسطينين 42% فقط من الضفة والقطاع ، ويصر على استمرار بناء المستوطنات ، وعلى قمع الانتفاضة بالإفراط في استعمال الآلة العسكرية ، فأي الاحتمالات السابقة سوف يفرض نفسه في الواقع ؟ نسأل الله تعالى أن لايكون واحدا منها ، بل يحصل بسبب هذه الانتفاضة نهاية الكيان الصهيوني وتحرير كل فلسطين وماذلك على الله بعزيز.