أيام في ألبانيا(2)

 

 

أيام في ألبانيا (2)

ألبانيا دولة فقيرة جدا ، فالشيوعية ـ كما يقال ـ لاتصنع شيئا سوى توزيع الفقر في الشعوب ، وهكذا صنعت في ألبانيا ، يقول ممثل جمعية النجدة الخيرية وهي جمعية خيرية للإغاثة الصحية مقرها الرئيسي في أمريكا ولها مقر في تيرانا ، يقول : أول ما جئنا إلى ألبانيا قبل نحو عشرة أعوام لم يكن في شوارعها من وسائل النقل سوى البغال والحمير ، كان الناس يتنقلون بالنقل الجماعي في باصات بائسة عفى عليها الدهر ، ولم يكن يملك السيارة إلا الآحاد من الناس لدرجة أنهم معرفون بأعيانهم ، فيقول الناس هذه سيارة فلان ، وفلان ، ولاتعجب بعد ذلك قط أن يكونوا من المتنفذين في الحزب الشيوعي .

ولم تهرع الدول الأوربية الغنية لمساعدة ألبانيا على النهوض بعد سقوط الشيوعية البغيضة إثر انهيار الاتحاد السوفيتي ، كما فعلت مع غيرها ، لم تفعل ذلك لأنها دولة ذات أغلبية إسلامية ، فتركت في فقرها حتى تكون فريسة سهلة لحملات التنصير التي تستغل حاجة المسلمين وفقرهم ، وهذا فعلا هو الذي يحدث في ألبانيا هذه الأيام ، فالأنشطة التنصيرية ماضية بجهود حثيثة لتنصير المسلمين .

وقد رأيت بأم عيني مدينة ألبانية يقطنها المسلمون بنسبة 90% ، وفيها نحو ثلاثة أو أربعة مساجد فقط ، وقد بني فيها عشرون كنيسة ، لا يدخلها أحد سوى الأشباح ، وإنما بنيت بقصد إثبات الوجود ، ولمحاولة طمس الهوية الإسلامية للمدينة ، ولهذا فهي ـ أي الكنائس ـ لاتفتح إلا ساعة واحدة يوم الأحد ، سوى مركز واحد قد أعد فيه أنواع الملاهي والملاعب وأجهزة الكمبيوتر والإنترنت في بلدة لا يكاد يملك فيها خط الهاتف إلا النزل القليل من الناس ، ويهرع الشباب الألباني المسلم إلى هذا المركز الذي ظاهره يناقض باطنه ، فظاهره للهو واللعب ، وباطنه للتبشير بالنصرانية .

وكم تألمت لأموال المحسنين في بلادنا التي تضيع هدرا في بناء مساجد تكلفتها أحيانا أكثر من مائة ألف دينار ، ثم يذهب معظمها في الزينة والزخارف ومظاهر الترف عديم الفائدة ، بينما يمكن بناء عشرين مسجدا في ألبانيا بهذا المبلغ ، فعل الله ييسر لكم ذلك بتوفيقه .

وقد رأيت كيف أن المسجد في ألبانيا يتحول فور الانتهاء من بنائه إلى مأوى يحفظ الشباب الألباني الملتزم بدينه ، يقيمون فيه صلاة الجمعة والصلوات الخمس ، ويحفظون القرآن ، ويتعلمون مبادئ الإسلام ، ويجتمعون على الخير ، فتزيد روح الجماعة إيمانهم ، وتقوي يقينهم بدينهم ، إنه ليس مجرد مسجد لاداء الصلاة ، بل مركز للعلوم الشرعية ، والدعوة الإسلامية .

في إحدى المدن الألبانية زرنا مسجدا صغيرا لازالت تقام في الصلوات الخمس ، غير أنك تخاف من المكث طويلا فيه خشية أن يهوى عليك سقفه ، فتح لنا باب المسجد مؤذنه الذي يذكرك مظهره الذي يتلاءم جدا في كبر سنه وتجعد خطوط وجهه ، وانتفاض يديه وهو يحدثك ، مع شكل المسجد في قدمه وتصدع جدرانه .

قال لي المترجم : كانت في هذا المسجد حلقة لتحفيظ القرآن للأولاد والبنات الصغار ، وكان المحفظ رجلا صالحا باكستانيا ، حافظا للقرآن ، وكانت جمعية خيرية صوفية في بريطانيا ترسل له نفقته ، ثم قطعوا عنه النفقة لاختلافه معهم في أمور أبى أن يوافقهم فيها إذ كان هو من أهل الحديث السلفيين ، فكيف يجتمع والصوفية الطرقيين ؟! ، فتعطلت حلقات القرآن ، فقلت : كم يحتاج هذا المحفظ ليتفرغ لعمله ، قال : ثمانين دينارا في الشهر فقط ، هل يمكنكم في الكويت توفيرها له ؟ فقلت : في أهل الكويت خير كثير، وهم معروفون بين الناس بحب الإحسان والإنفاق الخيري ، ويمكن توفير أضعاف هذا المبلغ بيسر وسهولة إن شاء الله تعالى .

وقد لمست في الشباب الألباني الملتزم حبا للعلوم الشرعية وشغفا في تحصيلها ، كأنهم استلهموا هذه الروح من المنزلة العالية التي تبوءها العلامة المحدث ناصر الدين الألباني في العلم ، وسمعت من بعض طلبة العلم أن الشيخ الألباني رحمه الله ، قد أوصى في آخر حياته بعد تحرر ألبانيا من الشيوعية ، بالعناية بدعوة الشعب الألباني للرجوع إلى دينه ، ولالوم عليه في حبه لقومه ، ولالوم عليهم في حبهم لمن فيه ذكرهم وشرفهم ، وللحديث بقية نواصل فيها ذكريات الرحلة التي لازلنا في أولها .

 


الكاتب: حامد بن عبدالله العلي
التاريخ: 06/12/2006