كاتب بريطاني : كذبة كبرى إسمها العدالة الدولية

 

روبرت ميلر / الخليج الإماراتية 7 سبتمبر

في 16/10/،1946 أعدم جواكيم فون ريبنتروب شنقاً في نورمبرج.الجريمة الرئيسية التي أدين بها ريبنتروب كانت التخطيط للغزو أو شن حرب من دون مبرر ملح.

 وشنق ريبنتروب بعد العثور على دليل يجرمه في وثائق الحكومة الألمانية.

ثمة حالة غزو أحدث عهداً: الحرب على العراق.

على الرغم من حداثة غزو العراق، وانكشاف حقائقه، إلا أن الساسة في بريطانيا مايزالون مترددين ومتخوفين، حيال نشر الوثائق الحكومية المتعلقة بنقاشات خطط غزو العراق، والساسة البريطانيون حائرون بين نشر نقاشات الحكومة حول خطط غزو العراق، أو التعتيم عليها والحفاظ على سريتها.

الساسة البريطانيون، لايزالون يتجادلون عما إذا كان ينبغي إقامة محاكم، لمحاكمة مجرمي حرب العراق. وفي هذا الصدد يقول ريتشارد فولك، خبير القانون الدولي: “غزو العراق يعتبر جريمة على السلام، مطابقة للجريمة التي اتهم بها القادة الألمان، وأدينوا وعوقبوا بها في محاكمات نورمبرج”. فلماذا يسمح للساسة البريطانيين المذنبين بالغزو أن يقرروا مصائرهم بأنفسهم، مع أننا نعلم أن الساسة النازيين حرموا من ذلك؟ أليست هي نفس الجريمة؟
في 2003 ذكر الصحافي الاسترالي جون بيلجر، أن كوندوليزا رايس قالت لبلير في يوليو/ تموز 2002 “إن قرار الهجوم على العراق قد تم اتخاذه. لا تتعب نفسك” وفي نفس الشهر (يوليو 2002) كتب السير جون ووكر نائب رئيس لجنة الاستخبارات البريطانية المشتركة، مذكرة سرية لأعضاء البرلمان البريطاني ينوه فيها إلى أن “التزاماً أو تعهداً بالحرب” جرى اتخاذه قبل ذلك التاريخ بسنة كاملة. وأعتقد أن هذه الوقائع إذا تم التأكد من صحتها تبين أن الحرب على العراق كانت غزواً.
والإبادة الجماعية كما تصفها “معاهدة منع ومعاقبة جريمة الإبادة” هي: “أفعال ترتكب بنية التدمير الكلي أو الجزئي لقومية أو إثنية أو عرق أو جماعة دينية”. والأسايب أو الوسائل الخمسة التي يتم بها تحقيق هذه الأفعال وتعتبر “إبادة” وفقاً للاتفاقية تتضمن “قتل أعضاء الجماعة” وتعمد خلق ظروف وأوضاع معيشية مدروسة تقضي لتحقيق دمار جسدي أو مادي جزئي أو كلي”.
العقوبات والحظر على العراق استهدفت المدنيين، وأدت إلى معدلات سوء تغذية وتجويع ضخمة، لكثير من العراقيين، خاصة الأطفال، الذين أصبحوا يموتون بأعداد كبيرة. وأيضاً أدت العقوبات على العراق إلى منع وصول أنواع كثيرة من الأدوية والعلاجات، ونجم عن ذلك وفاة كثير من العراقيين بسبب أمراض يمكن معالجتها. وكذلك أدى الحظر على العراق إلى إعاقة تطهيره من مخلفات وآثار جزيئيات اليورانيوم الناجمة من القصف بعد حرب الخليج الأولى، وأدت ذرات اليورانيوم لإصابة العراقيين بمعدلات عالية من السرطان، واللوكيميا والعاهات، بالإضافة لأمراض أخرى كثيرة. وفي 1998 قال وزير العدل الأمريكي الأسبق رامزي كلارك إنه يقدر عدد من توفوا بسبب العقوبات ب 1،5 مليون عراقي. وقد استمرت العقوبات خمسة أعوام بعد تصريحات كلارك.
وهكذا، يتضح لنا أن العقوبات التي فرضت على العراق خرقت بلا لبس مادة أساسية من مواد “معاهدة منع ومعاقبة جريمة الإبادة” وهي المادة التي سبق الإشارة إليها والتي تقول: “... تعمد خلق ظروف وأوضاع معيشية تفضي لتحقيق دمار جسدي أو مادي، جزئي أو كلي...”، وعلى الرغم من إدراك الساسة في بريطانيا وأمريكا بمدى الألم، والمعاناة التي نجمت عن العقوبات على العراق، إلا أنهم اختاروا الابقاء عليها، وغضوا الطرف عن مآسي وآلام الشعب العراقي. وبلا شك بلغت هذه العقوبات مرتبة أفعال الإبادة. ولكننا بحاجة لنشر الوثائق الحكومية البريطانية لكي نجلي الحقيقة حول الغرض والهدف من تلك العقوبات التي فرضت على الشعب العراقي، وتحديد نية أو هدف العقوبات يوضح ما إذا كان الغرض منها يرقى لنية الإبادة الجماعية.
ولكن حتى إذا تم نشر هذه الوثائق، أشك في أن تعقد محاكم جرائم حرب، بل أشك في أن يمثل أحد الساسة أمامها، فالقوى التي تتمتع بالنفوذ تستثنى دائماً من ذراع القانون الطويلة.
ولو لم تكن هذه القوى تستثنى من القانون، لشهدت محاكمات الخمير الحمر التي تجري حالياً، مقاضاة الأمريكيين لأنهم دبروا قصف كمبوديا المحايدة جريمة الغزو التي قتلت 600،000 كمبودي. وكانت المحاكمات ستشمل أيضاً البريطانيين الذين حاولوا إعادة الخمير الحمر للسلطة، بعد إطاحتهم منها على يد الفيتناميين. والبريطانيين ومعهم بدرجة أقل الأمريكيين دربوا ودعموا الخمير الحمرت أثناء الحرب الأهلية، وتضمن التدريب استخدام الألغام. وقد كان هذا التدريب والدعم متواصلاً طوال الفترة التي كان فيها الخمير الحمر ينفذون سياسات الإبادة والتصفية في المناطق التي استعادوها. ولو كان القانون يطبق بشكل متساو وبعدالة تامة، لشملت محاكمات الخمير الحمر الساسة الأمريكيين والبريطانيين الذين فرضوا حظراً وحصاراً مثل منع وصول الغذاء لكمبوديا التي كانت تعاني وقتها من المجاعة وفرض الأمريكيون والبريطانيون ذلك الحظر، فقط لأن محرري كمبوديا كانوا أعداء للولايات المتحدة.
لو لم يكن الأقوياء يفلتون من قبضة العدالة، لكانت محاكم جرائم الحرب في كوسوفو تشمل قادة حلف الأطلسي والساسة الأمريكيين والبريطانيين الذين أصدروا أوامر قصف المدنيين في صربيا. وكانوا يتوقعون أن يؤدي هذا القصف لزيادة مذابح الصرب، وهذا بالفعل ما حدث.
ثم أين محاكمات غزو العراق، وأفغانستان، وبنما، ونيكاراغوا، وغرينادا، وتيمور الشرقية، ولبنان، وفيتنام، وكمبوديا، ولاوس، وغينيا البريطانية، والملايو (ماليزيا حالياً)، وكينيا، وكل الدول التي خضعت للغزو والاستعمار من الولايات المتحدة وبريطانيا؟
في هذا السياق يبدو التفكير في مفهوم الإثم الجماعي مناسباً. وأعتقد أن علينا أن نفعل شيئاً حيال جرائم حكوماتنا. إذ يجب علينا أن نطالب بمحاكمات لكل الجرائم التي ارتكبتها حكوماتنا ومرت من دون عقوبة، وعلينا أيضاً أن نناهض وبقوة الجرائم التي لاتزال حكوماتنا ترتكبها، مثل الجرائم التي تحدث في أفغانستان وكوبا، وعلينا أن نقاوم كذلك، الإمبريالية غير الرسمية التي يتم تمريرها وتنسيقها عبر صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، وحتى إذا افترضنا عقد محاكم جرائم حرب تشمل الكل، وهذا طبعاً افتراض غير مرجح، فلن نتمكن من منع حدوث جرائم مماثلة في المستقبل. فعندما تكون نخبة محظية، ومهيمنة على اتخاذ القرار في دولة ما، تصبح حاجتها لارتكاب جرائم فظيعة، أمراً حتمياً، لكي تتمكن من الحفاظ على حظوتها العالمية والمحلية. وأمريكا وبريطانيا تتحكم فيهما نخبة ثرية، ومشاركة شعبيهما محصورة فقط، في اختيار وتقرير أي نخبة يكون لها معظم القوة والسلطة.
ولو كان للشعوب سلطة كاملة على طريقة إدارة دولها، فلن تصبح الحروب ضرورية، وسيكون ممكناً تجنب هذه الجرائم المرعبة. فقط عبر المشاركة الديمقراطية يمكن تفادي جرائم الدولة في المستقبل. ولو فشلنا وتقاعسنا عن العمل، فسيقع على عاتقنا عبء الإحساس بالذنب، وسيكون عبئاً ثقيلاً.

التاريخ: 09/09/2009