ما دوافع واشنطن وطهران في بدء حوار حول العراق؟إيران وأميركا: 'صفقة كبرى' أم 'مجابهة كبرى' ؟.

 


ما دوافع واشنطن وطهران في بدء حوار حول العراق؟



الـ «تايم» بقلم: توني كارون

تعريب: نبيل زلف


لم يكن غريبا ان تبدو الاخبار، التي تحدثت حول اعتزام الولايات المتحدة وايران عقد محادثات لبحث المسائل التي تهم الجانبين في العراق، متناقضة وغير معقولة. فقد جاءت في نهاية اسبوع كرر الرئيس بوش خلاله عبارته الشهيرة بأن «طهران جزء من محور الشر»، كما انتقدت وزيرة الخارجية الامريكية كونداليزا رايس ايران بعنف ووصفتها بـ «بنك الارهاب المركزي».
اما جون بولتون، مندوب واشنطن في الامم المتحدة، فقد تحدث عن تهديد ايراني لامريكا يتماثل مع ما حدث في 9/11 باستثناء ان الاسلحة فيه ستكون نووية هذه المرة.
لكن ما ان مرت ساعات قليلة على اعلان رئيس الامن القومي الايراني ان طهران مستعدة لبدء محادثات مع واشنطن حول العراق حتى اعلنت ادارة بوش استعدادها لذلك ايضا.
ومع هذا، واصل الجانبان بعدئذ تبادل التعليقات المتشددة، حيث اكد الايرانيون انهم ذاهبون الى المحادثات لابلاغ الامريكيين بضرورة انهاء احتلالهم للعراق. واعلن الامريكيون ان المحادثات تمثل فرصة للطلب من ايران الكف عن التدخل في الشؤون العراقية.
لكن اذا كان هذا هو كل ما يريد ان يقوله كل طرف للآخر لما احتاج الامر اذن لعقد محادثات مباشرة لأن بمقدورهما اعلان ذلك بسهولة من خلال وسائل الاعلام.
لذا، واستنادا للمنطق، يمكن القول ان قبول الجانبين بدخول محادثات مباشرة يمثل اعترافا منهما بأن لكل طرف مصلحة مشروعة ودورا في تشكيل احداث العراق. وان هذه المصالح يمكن خدمتها على افضل وجه من خلال تنسيق تدخل الجانبين الامريكي والايراني. وهذا بخلاف ان تصاعد التوتر السياسي الطائفي يفرض على الطرفين اقامة قنوات اتصال لادارة الازمة.

ماذا تحمل المحادثات لأمريكا؟

الحقيقة ان سبب رغبة واشنطن في المحادثات بسيط، ولو انها تفضل عدم الاعتراف به، فهي تريد تحقيق اهدافها في العراق دون التعاون مع ايران. الا ان هذا الامر غير ممكن في ضوء تزايد النفوذ الايراني وتفوقه على مثيله الامريكي لدى احزاب الشيعة التي هيمنت على الساحة السياسية بعد الانتخابات الديموقراطية في العراق.
في الوقت الراهن لا تزال العملية السياسية متعثرة في العراق لفشل زعمائه المنتخبين في الاتفاق حول تشكيل حكومة وحدة وطنية بسبب رفض الشيعة الاستجابة لمطالب السنة كما تريد واشنطن.
ويبدو ان ادارة بوش كانت تخشى ان تجذب احزاب الشيعة طهران للقيام بدور اكبر في شؤون البلاد اذا ما نفذت واشنطن تهديدها بسحب تأييدها للحكومة الجديدة كوسيلة ضغط منها لدفع الشيعة للاستجابة لمطالب السنة. وما من شك في ان مساعدة ايران لامريكا في التوصل لاتفاق حول مبادئ انقسام السلطة في بغداد سينطوي على اهمية كبيرة، كما ان المساعدة الايرانية ضرورية جدا لكبح المتطرفين الشيعة من الرد على الهجمات الطائفية الاستفزازية التي تقف وراءها القاعدة في العراق.

وماذا تحمل لإيران؟

في البداية، رفضت طهران - علنا على الاقل - جهود واشنطن لعقد محادثات حول العراق.
ومن المعتقد ان نظام طهران احس بالارتياح لأن الوضع القائم في العراق جعل الولايات المتحدة بحاجة اليه اكثر مما هو بحاجة اليها، مما يعني انه بات يمتلك ورقة ضغط في التعامل مع واشنطن بشأن قضايا شائكة اخرى ابرزها المسألة النووية.
اذ قال علي لاريجاني رئيس مجلس الامن القومي في ايران ان طهران وافقت على اجراء محادثات مع الجانب الامريكي استجابة لنداء اقوى حليف لها في بغداد عبدالعزيز الحكيم، زعيم اكبر حزب في الكتلة الشيعية. ولا ريب في ان للحكيم، العالق وسط توتر طائفي متصاعد في البلاد، مصلحة في تحقيق ولو قدر معين من التفاهم بين الولايات المتحدة ومؤيديه في طهران، فهو يدرك اكثر من أي شخص آخر ان بقاء النظام السياسي، الذي أمّن له الكثير من السلطة، لا يزال يعتمد على الوجود العسكري الامريكي. غير ان نداءات الاشقاء الشيعة في العراق لم تكن هي السبب الوحيد الذي اقنع طهران بضرورة الجلوس الى طاولة المفاوضات. اذ ان انهيار النظام السياسي العراقي وانزلاق البلاد الى الحرب الاهلية من شأنه ان يهدد بالتأكيد النفوذ الكبير الذي حصلت عليه ايران في العراق من خلال العملية الديموقراطية التي جرت فيه، بل ويمكن ان تنجر ايران عندئذ الى صراع اقليمي مدمر لا يستطيع احد ان يحدد ابعاده. ثم هناك ايضا المسألة النووية، فمع عرض هذه القضية امام مجلس الامن الدولي يصبح من مصلحة ايران تصوير نفسها عندئذ كلاعب جيوبوليتيكي مسؤول، يعمل على مساعدة دولة مجاورة اصبحت مصدرا لعدم الاستقرار في الشرق الاوسط.
اذن هل ستتناول المحادثات الجانب النووي؟
لا، ليس رسميا على الاقل، وذلك لأن كل منهما يريد تجنب الظهور كما لو انه يعمل تحت تأثير ضغط الجانب الآخر فيما يخص هذه المسألة. كما ان الموقف الرسمي يشير الى ان القضية النووية مسألة يتعين بحثها في اماكن اخرى مع اطراف معنية بها ايضا كالدول الاوروبية.
لكن اذا تمكن الجانبان فعلا من الجلوس الى طاولة المفاوضات، ومناقشة قضية مهمة استراتيجيا لهما كقضية العراق ثم توصلا ولو لقدر معين من التفاهم حولها، فإن هذا سيشكل عندئذ تقدما تاريخيا في التعامل العلني بين الولايات المتحدة وجمهورية ايران الاسلامية.
ومن المؤكد ان هذا سيساهم مع مرور الوقت في تغيير المناخ العدائي السائد بين واشنطن وطهران منذ امد بعيد.


نقلا عن الوطن الكويتية 27 مارس2006م
********


إيران وأميركا: 'صفقة كبرى' أم 'مجابهة كبرى' ؟


ثلاثة أسئلة يطرحها الآن الصراع الراهن بين ايران والولايات المتحدة:ـ
1 - لماذا اختار الطرفان في هذه المرحلة طريق التصعيد، فيما كانا حريصين طيلة السنوات ال27 الماضية، برغم تناقضهما الاستراتيجي، (وانطلاقا من براغماتيتهما المفرطة) على فسح مجال واسع امام الصفقات التكتيكية السرية وغير الرسمية
بينهما ؟
2 - كيف يطل الجانبان حاليا على طبيعة موازين القوى بينهما؟
3 - ثم: الى أين من هنا: الى التسويات الهادئة أم المجابهات الساخنة؟
السؤال الاول أجابت عنه مؤخرا رولا خلف ('فايننشال تايمز') حيال حسابات ايران بالآتي: 'تعتقد طهران أنها قادرة في هذه المرحلة على التصعيد لاسباب عدة: ارتفاع أسعار النفط التمدد الاستراتيجي الاميركي الزائد، وقدرة ايران على اشعال القلاقل في كل أنحاء الشرق الاوسط'. وهذه عوامل تجعل الملالي الايرانيين واثقين من خروجهم منتصرين من المجابهات الساخنة الراهنة مع أميركا.
في المقابل، ترى واشنطن هي الاخرى ان هذا أفضل زمن للتصعيد مع طهران.
فبعد نحو ثلاثة أشهر من 'الهجوم العام' الذي شنه الرئيس الايراني أحمدي نجاد وأحال خلاله النهج التفاوضي للرئيس خاتمي مع الغربيين الى هباء منثور، بدأت أميركا هجوما معاكسا يبدو أنه سيكون، على الارجح، كاسحا وعلى كل الجبهات.
على الصعيد الدولي، أفادت واشنطن حتى الثمالة من اقدام نجاد على استعداء الاوروبيين، وارباك حلفائه الروس، واحراج أصدقائه الصينيين، لتحقق هدفها بوضع ايران في قفص الاتهام والتعذيب في مجلس الامن الدولي. وهذا نصر أميركي كبير قد لا تتضح مضاعفاته الاكبر الآن، لكنها حتما على الطريق. فنحن نعيش في عصر اليد العليا فيه للشرعية الدولية فوق شرعيات الدول - الامم (على الاقل خارج نادي الدول الكبرى!).
وعلى المستوى الاميركي الداخلي، جاءت دعوات نجاد المفاجئة لازالة اسرائيل من الخريطة أو نقلها شعبا ومؤسسات الى بقعة جغرافية أوروبية، اضافة الى رفضه الاعتراف بالهولوكوست (المحرقة اليهودية)، بمنزلة الخميرة التي أنضجت خبز المتطرفين الاميركيين في الادارة والكونغرس الداعين الى تغيير النظام الايراني. المنطق هنا كان بسيطا: طالما أن النظام الايراني يدعو الى ابادة اسرائيل، وطالما انه يسعى للحصول على أسلحة الابادة الشاملة، فلم يعد ثمة مناص ليس فقط من منعه من تحقيق ذلك، بل العمل أيضا 'لمحوه هو من الخريطة'.
والحصيلة: تخصيص 75 مليون دولار اميركي لتمويل القوى المحلية الايرانية العاملة على تغيير النظام، وبلورة الخطط لتجويع الملالي ماليا، مع تسريع الخطط العسكرية لشن هجمات كاسحة على البنى التحتية الايرانية النووية والعسكرية والمدنية.
ثم هناك بالطبع المستوى الاقليمي الشرق اوسطي، والذي يشهد أصلا حربا باردة اميركية - ايرانية قد تتحول في أي لحظة الى حروب ساخنة بالواسطة في كل من لبنان والعراق وسوريا وفلسطين، أو إلى حرب ايرانية - اميركية مباشرة.


الصدقية العسكرية
كونداليسا رايس أكدت لقيادات يهودية أميركية مؤخرا ان 'الطريق سيكون طويلا قبل احتمال اللجوء لاستخدام القوة ضد ايران'. لكنها شددت في الوقت نفسه على أن الادارة الاميركية ليست مستعدة لقبول ايران نووية، وأن لديها 'الصدقية الكافية اذا اضطرت للجوء الى الخيار العسكري'.
وهذا موقف خطير لانه يعني أمرين متلازمين: الاول، أن واشنطن، وبرغم انها تكرر أناء الليل واطراف النهار أنها تفضل الصراع الدبلوماسي - الاقتصادي على الامني، الا ان خيارها العسكري سيكون من الان فصاعدا على الطاولة. والثاني، أن التشديد على 'الصدقية الاميركية' (اقرأ الشرعية الدولية) حيال الخيار العسكري، يعني منح واشنطن 'حق' مهاجمة ايران في أي وقت تراه مواتيا.
وبالمناسبة، مثل هذا الهجوم، وبسبب التعقيدات المتعلقة بتدمير المواقع النووية السرية الايرانية، سيكون مفاجئا تماما او لا يكون، على ما يؤكد كبار الخبراء العسكريين الاميركيين.
كل هذه المعطيات، الدولية والاميركية والاقليمية والعسكرية، تعني ان عناصر 'الهجوم الاميركي المعاكس' اكتملت فصولا. ولم تكن جولة رايس الاخيرة في الشرق الاوسط اكثر من مناسبة لابلاغ من يهمهم الامر في المنطقة بالاستعداد لمضاعفات ما يمكن أن يكون، شكليا على الاقل، حرب الخليج الرابعة، تحت شعار 'اما انتم معنا او ضدنا'.


موازين القوى
لكن، لماذا وصلت الامور الى هذا الحد من التوتر بين البلدين، برغم أنهما نجحا مرات عدة منذ العام 1979 في ابرام العديد من الصفقات والتسويات (ايران - كونترا ملفا الرهائن حروب أفغانستان والكويت والعراق.. الخ)؟
هذا ينقلنا الى السؤال الثاني حول موازين القوى. وهنا يطل فورا ملف التسلح النووي الايراني برأسه، بصفته العامل الاهم في هذه الموازين، والذي تتفرع منه بعد ذلك العديد من الملفات المرتبطة به.
فبالنسبة لاميركا، حيازة طهران للقنبلة سيخل على نحو خطير بموازين القوى العسكرية الراهنة في الشرق الاوسط، ويضع القوات الاميركية في العراق وأفغانستان والمنشآت الاسرائيلية تحت رحمة الصواريخ غير التقليدية الايرانية.
وهو سيخل أيضا بموازين القوى الاستراتيجية.
فالولايات المتحدة تضع صراعها مع ايران في اطار اندفاعتها الكبرى بعد احداث 11 سبتمبر 2001 للسيطرة على الشرق الاوسط الكبير. وهي تريد استخدام هذه الرقعة الجغرافية الشاسعة التي تمتد من غرب افريقيا الى جنوب شرق آسيا، كمنصة انطلاق نحو السيطرة على كل قارة أوراسيا (اوروبا - آسيا). وبالطبع، نفط العالم الاسلامي، وموقعه الاستراتيجي الوسيط بين اوروبا وآسيا، يلعبان دورا كبيرا في حفز هذه الاندفاعة.
كتب توماس دونالي، من مؤسسة 'أميركان انتبرايز' للابحاث، 'سياستنا تجاه الجمهورية الاسلامية الايرانية يجب ألا تكتب في فراغ او على ورقة بيضاء. انها يجب أن تكون في اطار الاستراتيجية الكبرى للشرق الاوسط الكبير. والحال أنه مهما كانت طبيعة الادارات التي ستتعاقب على البيت الابيض، فان صيغة ما من 'مبدأ بوش'، الذي يستهدف أساسا الحفاظ على النظام العالمي الليبرالي والمستقر والمسالم عموما الذي نجم عن انهيار الامبراطورية السوفيتية، ستستمر'.
ويقول باحث آخر من دورية 'ويكلي ستاندرد' المحافظة أن 'أي ادارة ديموقراطية جديدة لن تستطيع، حتى لو أرادت، تجنب مسؤوليات والتزامات الدولة العظمى الوحيدة. اذ مهما حاول الديموقراطيون دفن رؤوسهم في الرمال الاستراتيجية، وبرغم كراهيتهم الشديدة للرئيس بوش، فانهم لن يستطيعوا تأمين حياة هادئة للولايات المتحدة.وهذا يشمل، على وجه الخصوص، الادعاءات الاميركية بامكانية العودة الى الامر الواقع في الشرق الاوسط الكبير'.
ليس ثمة، برأي هؤلاء، بديل لمبدأ بوش الهجومي المعنون 'استراتيجية متقدمة للحرية في الشرق الاوسط الموسع'. الاستراتيجية الدفاعية باتت غير ممكنة، لان النظام السياسي الشرق اوسطي لما بعد 11 سبتمبر في المنطقة كان هو المصدر الرئيسي للعدمية والعنف اللذين اديا الى الهجمات الارهابية. وبالتالي يجب تحقيق أهداف مبدأ بوش بالكامل اذا ما أرادت أميركا الحفاظ على زعامتها وهي : ضرب المنظمات الارهابية الاسلامية والحكومات التي تدعمها، احتواء القوة العسكرية الصينية، ومنع قيام 'محور شر' حقيقي بين القوى الراديكالية الاسلامية وبين القوة الصينية الصاعدة.
هنا تطل ايران برأسها بوصفها عقبة محتملة في وجه هذا المشروع الكبير، خاصة اذا ما امتلكت أسلحة الردع النووي.
فهذه القوة الاقليمية تعارض مباشرة مشروع التغيير الاقليمي الاميركي. وهي برغم العزلة الدولية، والهزيمة المدمرة في الحرب مع العراق، وانتشار القلاقل الداخلية فيها على نطاق واسع، فانها لا تزال تحتفظ بزخمها الايديولوجي وبقبضتها المحكمة على السلطة.
لكن اذا ما كان ثمة استمرارية في أهدافها الاستراتيجية والسياسية، الا أن وسائلها تغيرت بشكل دراماتيكي. فقد اكتشفت طهران أنها غير قادرة على اخراج الاميركيين من منطقة الخليج والشرق الاوسط الاوسع، وانها بعد حربي أفغانستان والعراق باتت مطوقة بالقوات العسكرية الاميركية من كل جانب. وربما لهذا بالتحديد، ازدادت أهمية الخيار النووي بالنسبة لها، خاصة بعد أن اقتصرت جهودها للحد من الدخول الاميركي الى المنطقة على الخيارات التقليدية، مثل توجيه الصواريخ نحو مضيق هرمز، وتعزيز الدفاعات الجوية، وبعد أن بات من الصعب عليها القيام بعمليات 'ارهابية' كما كان الامر قبل العام 1996.
ويوضح توماس دونالي أن الخيار النووي الايراني كابوس في حد ذاته بالنسبة للاميركيين. لكن ليس لان الايرانيين قد يسلمون الارهابيين أسلحة نووية (فهذا أمر مستبعد تماما تقريبا )، بل لان هذا الخيار يهدد بتقييد حركة الاميركيين في الشرق الاوسط الكبير.
الخطر هنا هو أن تمد ايران ردعها النووي، سواء مباشرة أو كأمر واقع، الى مجموعة من الدول والمنظمات في كل المنطقة، كما فعلت الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة. واذا ما عقد الغرب صفقة مع ايران تحتفظ بموجبها بالاسلحة النووية، فهذا سيقرأ في المنطقة على انه بداية تراجع استراتيجي للزعامة الاميركية في العالم، وتخليا عن مشروع الشرق الاوسط الكبير. وحينها ستسعى دول اساسية مثل السعودية الى التأقلم مع طهران كما فعلت في التسعينات، فيما ستفكر دول أخرى كباكستان بالتراجع عن السياسات التي التزمت بها امام واشنطن بعد هجمات 11 سبتمبر.
ويحذر المحافظون الجدد الاميركيون من ان خسارة أميركا لمعركة تجريد ايران من ورقة التسلح النووي، ستكون لها مضاعفات دولية خطيرة. اذ حينها ستكون فرنسا وألمانيا اكثر جرأة بما لا يقاس على تحدي النفوذ الاميركي في الشرق الاوسط الكبير، وحتى في أوروبا نفسها. والاخطر ان هذا قد يشجع الصين وايران على تعزيز تحالفهما الاستراتيجي، الامر الذي قد يشكل بداية لتحالف اوسع بين العالمين الصيني والاسلامي. وهذا هو الكابوس بعينه لدى صانعي القرار في واشنطن.


إلى أين ؟
الآن، اذا ما كانت ايران مصممة على التحرك بخطى سريعة نحو الانضمام الى النادي النووي واذا ما كانت أميركا واسرائيل وزعماء الغرب مصممين هم أيضا على منعها من ذلك، فكيف يمكن ان تنتهي هذه اللعبة الخطرة : بالسلم والصفقات، ام بالحرب والغارات ؟.
معهد 'جافي' الاسرائيلي للابحاث الاستراتيجية، قال في تقريره السنوي الاخير ان 'الولايات المتحدة جادة في نيتها ضرب المنشآت النووية الايرانية. وهو ما نقل عن الدكتور شلومو بروم، احد خبرائه، بأن' تورط أميركا في العراق، لن يحول دون توجيهها ضربة عسكرية لايران، وهي قد تقوم بهجوم محدود لا يدمر قدرات ايران النووية لكنه قادر على المس بها بصورة جدية.
قبل ذلك، كانت 'فايننشال تايمز' تنسب الى محللين قريبين من الادارة الاميركية قولهم ان 'تحذيرات واشنطن من انها' لن تتحمل 'وجود ايران نووية، اطلقت نقاشا حامي الوطيس في الولايات المتحدة حول مزايا الضربات العسكرية ضد البرنامج النووي الايراني، وانه يتم الان دراسة الخيارات العسكرية، لكن ذلك لم يصل بعد الى مستوى بدء الاستعدادات الفعلية لتوجيه الضربات العسكرية لكن، ليس مضمونا أن تؤدي الغارات الجوية الى وقف البرنامج النووي الايراني، خاصة بعد ان بات الايرانيون مكتفين ذاتيا في مجالي المعرفة التقنية والمعدات. وهذا يعني أنه اذا ما ارادت الولايات المتحدة الاجهاز الفعلي على البرنامج الايراني، فان العمليات المحدودة لن تكون كافية. قد يكون عليها المضي قدما لغزو كل ارض فارس واحتلالها.وهذا ليس مشروعا مغريا عسكريا. فايران بلد شاسع، وكثيف السكان، و ذو طوبوغرافيا وعرة للغاية.
هذه الصعوبات والمضاعفات، تدفع الان مراكز القرار والابحاث في الولايات المتحدة الى البحث عن وسائل اخرى أقل خطورة وأكثر فائدة.
فمثلا، 'مجلس العلاقات الخارجية' الاميركي، الذي يتمتع بنفوذ كبير على أصحاب القرار، نشر تقريرا بعنوان: 'ايران: حان الوقت لمقاربة جديدة'، اقترح فيه ابرام صفقة مع ايران تستند الى 'جزرة' الابقاء على برامجها النووية وفك الحصار الاقتصادي عنها، مقابل تخليها عن هدف التسلح النووي. ويعدد المجلس المنافع التي يمكن ان تجلبها مثل هذه الصفقة لاميركا، منها أن طهران يمكن أن تلعب دورا مهما في تعزيز استقرار حكومة تعددية في بغداد. كما يمكن حفزها على لعب دور بناء في كل من العراق وافغانستان، خاصة انها تمتلك قدرة على خلق صعوبات مهمة لهذين النظامين اذا ما استعدياها'.
ويوصي المجلس الادارة بأن 'تتعامل بشكل انتقائي مع ايران لتعزيز الاستقرار الاقليمي. وهذا يتطلب اعادة النظر حيال المقاربة الاستراتيجية ازاء هذه الدولة'. ورغم انه يؤيد اندفاعة الولايات المتحدة لتحقيق الديموقراطية في الشرق الاوسط الكبير، فإنه يدعو الولايات المتحدة الى التخلي عن 'خطاب تغيير الانظمة'، وعلى رأسها النظام الايراني، لان ذلك سيثير المشاعر القومية دفاعا عن النظام، حتى لدى أولئك الذين يعارضونه.
هذا التوجه أثار حفيظة المحافظين الاميركيين، الذين اتهموا مجلس العلاقات ومعه الديموقراطيون بالتخلي عن مسؤوليات اميركا في الشرق الاوسط والعالم. بيد انهم، بدورهم، لا يبدو انهم يحبذون (علنا على الاقل) الخيار العسكري.
فقد اقترحت مؤسسة 'اميركان انتربرايز' الناطقة باسمهم 'حلا وسطا' بين 'الصفقة الكبرى' المرفوضة وبين الحل العسكري الصعب، يقوم على تطوير الحصار الاقتصادي - العسكري لايران ليصبح حصارا ايديولوجيا أيضا، من خلال مواصلة مشروع ادارة بوش في نشر الديموقراطية في الشرق الاوسط.
وتحدد المؤسسة هدفين : الاول، منع ايران من الحصول على دعم قوى كبرى. ورغم ان قطع علاقات ايران بالصين سيكون صعبا، فإن الامر ليس كذلك مع الهند التي يمكن اغراؤها بقطع علاقتها مع طهران مقابل اقامة تحالف استراتيجي بينها وبين أميركا. (وهذا بالتحديد ما فعله بوش خلال زيارته الاخيرة للهند).
أما الهدف الثاني فهو أن تحتفظ الولايات المتحدة بالمبادرة في مشروعها الجديد للاصلاح والتغيير في الشرق الاوسط الكبير. فالعزل الحقيقي للنظام الايراني لن يتحقق الا حين يغرق هذا الاخير في بحر أكبر من الحكومات الليبرالية القابلة للمساءلة في المنطقة. واذا ما استقرت الديموقراطية في أفغانستان والعراق، رغم استمرار أعمال العنف فيهما، فستتعرض ايران الى مخاطر مضاعفة في الداخل.
وهذا يعني انه على أميركا ألا تتأخر في الافادة من أي تناقضات داخلية قد تنشأ في ايران. وهي يجب ان تكون مستعدة للعمل بشتى الوسائل لمنع النظام الايراني من الاستقرار، ولوقف جهوده للحصول على الاسلحة النووية، سواء بالطرق العسكرية أو السلمية. بالعنف او الدبلوماسية. وفي هذه النقطة بالتحديد، ثمة تقاطع بين الجمهوريين والديموقراطيين الاميركيين. فكلهم يضع هدف قطع رأس البرنامج النووي الايراني على رأس جدول اعمالهم، وان اختلفوا في تحديد وسائل تحقيقه.
ويبدو ان الامر سيبقى على هذا النحو حتى ولو امتلكت ايران رسميا السلاح النووي. اذ ان الولايات المتحدة ستعمل حينذاك على اجبارها على لفظ ما ابتلعته نوويا، كما فعلت سابقا مع دول نووية اخرى مثل جنوب افريقيا واوكرانيا وروسيا البيضاء وكازاخستان.
وهنا، ثمة نقطة لا يجب القفز فوقها : اميركا بعد 11 سبتمبر باتت هي 'القوة الثورية' الرافضة للامر الواقع، فبها انقلبت 'الثورة الاسلامية الايرانية' الى قوة محافظة تعمل للابقاء على الامر الواقع.
وهذا انقلاب ضخم يجب أن يدفع الى التفكير مليا في مسألة خطيرة أخرى هي : من يمتلك زمام المبادرة الاستراتيجية في الازمة النووية الايرانية الراهنة، سيكون قادرا على حسم الكثير من نتائجها سلفا.
وهذا بالتحديد ما تتسابق ايران واميركا عليه الان: الاولى عبر هجوم هدفه الدفاع عن نظامها، والثانية عبر دفاع يسعى لتمهيد الاجواء امام هجوم شامل على النظام الايراني.
والسباق، بالمناسبة، لا يزال في بدايته. في بدايته الاولى.


 27 /3/2006سعد محيو ـ نقلا عن القبس الكويتية


التاريخ: 25/12/2006