تكفير المعين ؟ |
|
السؤال:
يا شيخ قرأت كثيرا في موضوع تكفير المعين وشرط إقامة الحجة ، ووجدت كلام العلماء كثيرا ومتشعبا وبعضه كأنه يتعار ض مع بعض ، فأريد أن تبسط لي هذه المسألة ، وبماذا تنصحني في هذا الموضوع ؟
*******************
جواب الشيخ:
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعــد :
هذا تهذيب لملخص كلام العلماء في في هذه المسألة :
** من لم يدخل في دين الإسلام فهو كافر بلا خلاف سواء بلغته الحجة أم لا ، لكن إن لم تبلغه الحجة في الدنيا ، لا يعذب في الآخرة إلا بعد الامتحان .
ولكن في أحكام الدنيا هو كافر ، لأنّ من لم ينطق بالشهادتين ، فلا يكون مسلما ، فإذاً هو كافــــر .
=================
** أما من وقع فيما تحصل به الردة من أهل الشهادتين .
فينظر :
إن كان ما وقع فيه ، مما لا يزول معه أصل الإسلام ومثله يعذر بجهله ، فإنه لا يحكم بكفره إلا بعد البيان .
وإلاّ يكن كذلك ، بأن وقع فيما لايبقى مع أصل الاسلام ، أو كان مثله لايعذر بجهله ، فإنّه لا يشترط البيان في الحكم عليه بالردة .
على هذا تجتمع الأدلة التي تدل على أن الجهل معتبر في الحكم بالردة ، والتي تدل على أنه غير معتبر .
_____________________
** وبهذا يعلم أن المسائل في هذا الباب ، تنقسم إلى قسمين ، مسائل يعذر فيها الجاهل .
ومسائل لا يعذر فيها .
فالتي يعذر فيها هي التي لا يذهب بسببها أصل الإسلام ويكون مع ذلك الواقع فيها مثله يعذر بجهله .
** فإن كان ما وقع منه ، لا يبقى معه أصل الإسلام ، مثل أن يعتقد بوحدة الوجود ، أو يسب الله تعالى عن ذلك ، أو يتخذ قبور الصالحين آلهة معبودة ، ونحو ذلك ، فهو ليس بمسلم أصلا .
وكون بعض هؤلاء لم يتلقّ غير التصور المناقض لأصل الإسلام في بيئته ليس بعذر لانه أصلا لم يعرف الإسلام ، وإنما عرف دينا آخر يظنه الإسلام ، فالواجب دعوته إلى الإسلام حينئذ ، لا أن يقال هو مسلم ولا يكفر حتى تقام عليه الحجة !
بل هو مثل الكافر الذي لم يعرف الإسلام أصلا ، فيُدعى إليه ، وغاية ما يقال : أنه إن مات ولم تبلغه الحجة ليعلم أن ما هو فيه ، ليس هو الإسلام الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنه يكون له حكم أهل الفترة في الآخرة .
وكذا الذين يعكفون على القبور ركّعا وسجّدا ، قد تعلقت بها قلوبهم توكلا وتعظيما ، وامتلأت أفئدتهم من خشيتها ورجاءها وسلموا لها تسليما ، فهؤلاء كفار ليسوا بمسلمين أصلا ، ولم يعرفوا أصل معنى الشهادتين ، فكيف يطلق عليهم اسم الإسلام ، وعلى أي أساس يرفعون إلى هذا المقام ، فلا يقال عن هؤلاء لايكفّرون حتى تقام عليهم الحجة ، بل هم كفار ، وكون هؤلاء وأمثالهم لم يجدوا غير هذا الدين فدانوا به ، لا يمنع إطلاق اسم الكفر عليهم .
كما لا يمتنع أن يُطلق الكفر على كلّ من لم يقم به أصل الإسلام .
وأما في الآخرة فيدخلـــون في قوله تعالى ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) إن كانوا حقا لم يبلغهم التوحيد قط .
أما المسائل التي يعذر فيها :
فكما لو جاء شخص من بادية بعيدة مثلا ، أو كان حديث عهد بكفر ، وكان يعرف الشهادتين ومعناهما ، وقد انقاد لهما في الجملة ، لكن جهل وجوب صوم رمضان مثلا ، فهذا معه أصل الإسلام ، ومثله يعذر بجهله فلا يكفـّر حتى يبيّن له ، ولهذا أمثله كثيرة في واقعنا ، والواجب أن يستصحب المسلم أصلا الإسلام فلايحكم على مسلم بالكفر حتى يتيقن وقوع الردة منه فيما لا يشترط فيه إقامة الحجة ، وإلاّ فيكون بعد البيان .
ومن أمثلة الذي قلنا : مثله لا يعذر بجهله ، لو فرضنا أن شخصا متخرج من جامعة شرعية ثم تبنى رأيا يسقط وجوب الصلوات الخمس على سبيل المثال ، أو يبيح الزنا ، حتى لقد سمعت أن : ( دكتورا ) في العلوم الشرعية في إحدى الجامعات ، قال إن الزنا حرّم من أجل أنه يخلط الأنساب ، وفي هذا العصر أمكن تجنب هذا بطرق كثيرة ، فينبغي أن يكون حلالا إن أمن اختلاط الأنساب !!!
فمثل هؤلاء لا يقال تقام عليهم الحجة ، بل يكفرون بمثل هذه الأمورالناقضة ، لأنهــم لا يعذرون بجهلهم ، أو بادعائهم الجهل .
** وبهذا يُعلم أن من قام به من الاعتقادات أو الأقوال أو الأعمال ، مالا يبقى معه أصل الإسلام فلا يطلق عليه اسم الإسلام بحال من الأحوال ولايقال مثله يعذر بجهله أو لا يعذر ، وإلا صار اسم الإسلام يطلق على نقيضين ، وهذا باطل ، فلابد أن ينطق الشخص بلفظ الشهادتين ، ويعلم منهما معنى مع الانقياد له ، فيكون أدنى ما يصح أن يطلق عليه به اسم الإسلام ، فإن لم يوجد ذلك فلا يصح بحال أن يسمى مسلما.
ــــــــــــــ
أما من قام به مكفِّر غير هذا ، فإنه ينظر إن كان مثله يعذر بجهله فلا يكفُر حتى تُقام عليه الحجة ، وإن كان مثله لا يعذر بجهله فإنه يُحكم بكفره ولايقال لابد من بيان الحجة .
ـــــــــــــ
** وينبغي أن يعلم أن قول (مثله يعذر بجهله ) يختلف باختلاف البلاد والزمان والمكان ، وأنه في هذا الزمان قد عم الجهل وطم ، فالواجب الاحتياط البالغ في الحكم على أهل الشهادتين بالردة ، وأن لا يقدم على ذلك إلا من علم الحق بالدليل ، وعرف حال المحكوم عليه ، وعرف مسألة العذر بالجهل .
ــــــــــ
وينبغي أن يعلم أن امتحان المسلمين لمعرفة دخائلهم بدعة ، فمن لم يظهر منه مكفر لا يُنقّب عن باطنه ، بل يُقر على ظاهره ، فلنا الظاهر والله يتولى السرائر .
ـــــــــــــ
وأما بالنسبة لاحكام الآخرة فكل من لم يبلغه دين الحق وإن لم نحكم عليه بأحكام الإسلام في الدنيـا ، فهو داخل في قوله تعالى ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) و الله أعلم
ـــــــــــ
** كما ينبغي أن يعلم أنه قد أخطأ في هذا الباب طائفتان ، هما الطرفان المذمومان في عامة المطالب الدينية ، الإفراط والتفريط ، فقوم كفروا كل من وقع في مكفّر ونفوا شرط بيان الحجة مطلقــــا .
ـــــــــــ
وقوم قالوا لا يكفر أحد مهما فعل حتى تقام الحجة ومن هؤلاء من قال لا يكفر من نطق الشهادتين قط مهما فعل حتى بعد إقامة الحجة ، وبعضهم قالوا بجهلهم لا يُحكم بالكفر على من لم يبلغه الإسلام في الدنيا حتى اليهود والنصارى ، وبعضهم قال : لايكفي بيان الحجة بلغة يفهم معاني ألفاظها ، بل يشترط أن يفهمها كما نفهمها ، وتزول عنه جميع الشبه ، ثم يرفض الانقياد ، وهذا كله باطل .
وبين هاتين الطائفتين المخطئتين ، الطائـفة الوسط ، وهم الذين يجعلون شرط قيام الحجة في موضعه المشروع دون غيره ، ولايعطلون أحكام التكفير عن مواضعها الشرعية .
وأنقل فيما يلي كلاما لشيخ الإسلام ابن تيمية فيه فائدة عظيمة :
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله :
(وأيضا " قد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إن رجلا لم يعمل خيرا قط فقال لأهله : إذا مات فأحرقوه ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين فلما مات الرجل فعلوا به كما أمرهم فأمر الله البر فجمع ما فيه وأمر البحر فجمع ما فيه فإذا هو قائم بين يديه . ثم قال : لم فعلت هذا ؟ قال من خشيتك يا رب وأنت أعلم ؛ فغفر الله له } " .
وهذا الحديث متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه أصحاب الحديث والأسانيد من حديث أبي سعيد وحذيفة وعقبة بن عمرو وغيرهم عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة يعلم أهل الحديث أنها تفيدهم العلم اليقيني وإن لم يحصل ذلك لغيرهم ممن لم يشركهم في أسباب العلم . فهذا الرجل كان قد وقع له الشك والجهل في قدرة الله تعالى على إعادة ابن آدم ؛ بعد ما أحرق وذري وعلى أنه يعيد الميت ويحشره إذا فعل به ذلك وهذان أصلان عظيمان :
" أحدهما " متعلق بالله تعالى وهو الإيمان بأنه على كل شيء قدير .
و " الثاني " متعلق باليوم الآخر .
وهو الإيمان بأن الله يعيد هذا الميت ويجزيه على أعماله ومع هذا فلما كان مؤمنا بالله في الجملة ومؤمنا باليوم الآخر في الجملة وهو أن الله يثيب ويعاقب بعد الموت وقد عمل عملا صالحا - وهو خوفه من الله أن يعاقبه على ذنوبه - غفر الله له بما كان منه من الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح .
وأيضا : فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم { إن الله يخرج من النار من كان في قلبه مثقال دينار من إيمان } " وفي رواية : { مثقال دينار من خير ثم يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان } " وفي رواية " من خير " " { ويخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان أو خير } " وهذا وأمثاله من النصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل أنه لا يخلد في النار من معه شيء من الإيمان والخير وإن كان قليلا وأن الإيمان مما يتبعض ويتجزأ .
ومعلوم قطعا أن كثيرا من هؤلاء المخطئين معهم مقدار ما من الإيمان بالله ورسوله إذ الكلام فيمن يكون كذلك ) .
ثم قال (فمن كان قد آمن بالله ورسوله ولم يعلم بعض ما جاء به الرسول فلم يؤمن به تفصيلا ؛ إما أنه لم يسمعه ، أو سمعه من طريق لا يجب التصديق بها أو اعتقد معنى آخر لنوع من التأويل الذي يعذر به ، فهذا قد جعل فيه من الإيمان بالله وبرسوله ما يوجب أن يثيبه الله عليه وما لم يؤمن به فلم تقم عليه به الحجة التي يكفر مخالفها ) . مجموع الفتاوى 12/ 490ـ 494
وقال في موضع أخر (لكن من الناس من يكـــون جاهــلا ببعض هذه الأحكام ـ يعني ما أجمع على تحريمه ـ جهلا يعذر به فلا يحكم بكفر أحد حتى تقوم عليه الحجة من جهة بلاغ الرسالة كما قال تعالى : { لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } وقال تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } ولهذا لو أسلم رجل ولم يعلم أن الصلاة واجبة عليه ؛ أو لم يعلم أن الخمر يحرم لم يكفر بعدم اعتقاد إيجاب هذا وتحريم هذا ؛ بل ولم يعاقب حتى تبلغه الحجة النبوية ) 11/ 407
ولبيان أن ما لا يبقى معه أصل الإسلام ، مثل عبادة القبور ، ونحو ذلك ، فإنه لا يكون من مسائل العذر بالجهل ، ننقل ما قاله العلامة المحدث إسحاق بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ في رسالته حكم تكفير المعين :
قال ( ومسألتنا هذه وهي : عبادة الله وحده لاشريك له ، والبراءة من عبادة ما سواه وأن من عبد مع الله غيره ، فقد أشرك الشرك الأكبر الذي ينقل عن الملة هي أصل الإسلام وبها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب ، وقامت على الناس الحجة بالرسول وبالقرآن ، وهكذا تجد الجواب من أئمة الدين في ذلك الأصل عند تكفير من أشرك بالله فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل ، لا يذكرون التعريف في مسائل الأصول ، وإنما يذكرون التعريف في المسائل الخفية التي قد يخفى دليلها على بعض المسلمين ، كمسائل نازع فيها بعض أهل البدع ، كالقدرية والمرجئة ، أو في مسألة خفية كالصرف والعطف .
وكيف يُعرِّفون عباد القبور ، وهم ليسوا بمسلمين ، ولا يدخلون في مسمى الإسلام ، وهل يبقى مع الشرك عمل ؟!
والله تعالى يقول : ( لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ) ( ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير ، أو تهوي به الريح في مكان سحيق ) ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ) ( ومن يشرك بالله فقد حبط عمله ) ، إلى غير ذلك من الآيات .
ولكن هذا المعتقد يلزم منه معتقد قبيح ، وهو أن الحجة لم تقم على هذه الأمة بالرسول والقرآن نعوذ بالله من سوء الفهم الذي أوجب لهم نسيان الكتاب والرسول ، بل أهل الفترة الذين لم تبلغهم الرسالة والقرآن ، وماتوا على الجاهلية ، لا يسمون مسلمين بالإجماع ، ولا يستغفر لهم ، وإنما اختلف أهل العلم في تعذيبهم في الآخرة ) .
ثم قال : ( وتفطن أيضا فيما قال الشيخ عبد اللطيف : فيما نقله عن ابن القيم أن أقل أحوالهم ـ عباد القبور بجهل ونحوهم ـ أن يكونوا : مثل أهل الفترة الذين هلكوا قبل البعثة ومن لم تبلغه دعوة نبي من الأنبياء ) .
ثم قال ( وكلا النوعين لا يحكم بإسلامهم ولا يدخلون في مسمى المسلمين حتى عند من لم يكفر بعضهم ، وأما الشرك فهو يصدق عليهم واسمه يتناولهم ، وأي إسلام يبقى مع مناقضة أصله وقاعدته الكبرى ، شهادة أن لا إله إلا الله ) ينظر من 150ـ 160
ومعنى قوله ( وكيف يعرفون عباد القبور ) أي كيف يشترط تعريفهم قبل الحكم عليهم بالكفر ، والحال أنهم لايتناولهـم أسم الإسلام أصــلا ، إذ كيف يتناول الموحد والمشرك المتخذ مع الله معبودا آخر ، يتناولهمـا سواء !!!
----------
أما قولك بم تنصحني ، فأنصحك بأن لاتقدم على تكفير المعيّن ممن نطق بالشهادتين إلا إذا علمت أنه وقع في مكفّر منصوص على أن به يخرج من الملّة.
فإن ترددت في كون المكفر يشترط له إقامة الحجة أم لا ، أو وجدت العلماء تنازعوا في مسألة معينة ، هل هي ممـا يشترط لـــه البيان قبل تكفير المعين أم لا ؟
ولم يتبيّن لك الصواب ، ولم يمكنك أن تقيم الحجة لتخرج من الخلاف ، فالسلامة لا يعدلها شيء ، لاسيما إن كان المحكوم عليه ممّن لا تتعلق به أحكام أنت مخاطب بها ، لكن هذا لا يمنع من إطلاق حكم الكفـر على ما قاله أو فعله ، وأن الواقــع فيه يكفر على سبيل العمــــــوم .
ومعلوم أن التحذير مما يحصل به الردة من أعظم الواجبات ، وأوجب من بيان سائر الأحكام ، وإنما كلامنا عن السلامة عند وقوع التردد ، إنما هو في التعيين والله أعلم .
الكاتب: سائل
التاريخ: 13/12/2006