فضيلة الشيخ : ماهو فضل ليلة القدر ، ومتى هي ، وما هو المشروع في العمل فيها ، وما هي أحكام الإعتكاف ، جزاك الله عنا خيرا ؟

 

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ،، وبعد :
 
يستحب تحرّي ليلة القدر في رمضان ، والاجتهاد في العبادة فيها ، لأنّ العبادة فيها مضاعفٌ فضلها ، حتى يبلغ فضل ثواب العمل فيها ، أكثر من ثواب عمل 83 عاما ، قال تعالى ( ليلة القدر خيرٌ من ألف شهر ) .
 
والدعاء فيها مستجاب ، ومن قامها فوافقها غُفر له ما تقدم من ذنبه ، ولهذا كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يجتهد في تحرّيها ، ويطلبها بالاعتكاف في المسجد لئلا يفوته فضلها العظيم ، كما صح في الأحاديث .
 
جاء في صحيح مسلم من حديث أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ( إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الأَوَّلَ مِنْ رَمَضَانَ ، ثُمَّ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الأَوْسَطَ فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ _ والقبّة : الخيمة وكلّ بنيان مدوّر _ عَلَى سُدَّتِهَا حَصِيرٌ ، قَالَ فَأَخَذَ الْحَصِيرَ بِيَدِهِ فَنَحَّاهَا فِي نَاحِيَةِ الْقُبَّةِ ، ثُمَّ أَطْلَعَ رَأْسَهُ ، فَكَلَّمَ النَّاسَ فَدَنَوْا مِنْهُ ، فَقَالَ إِنِّي اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الأَوَّلَ ، أَلْتَمِسُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ ، ثُمَّ اعْتَكَفْتُ الْعَشْرَ الأَوْسَطَ ثُمَّ أُتِيتُ ، فَقِيلَ لِي إِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ ، فَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَعْتَكِفْ ، فَاعْتَكَفَ النَّاسُ مَعَهُ ، قَالَ : وَإِنِّي أُرْيْتُهَا لَيْلَةَ وِتْرٍ ، وَإِنِّي أَسْجُدُ صَبِيحَتَهَا فِي طِينٍ ، وَمَاءٍ ، فَأَصْبَحَ مِنْ لَيْلَةِ إِحْدَى وَعِشْرِينَ ، وَقَدْ قَامَ إِلَى الصُّبْحِ ، فَمَطَرَتْ السَّمَاءُ ، فَوَكَفَ الْمَسْجِدُ ، فَأَبْصَرْتُ الطِّينَ ، وَالْمَاءَ ، فَخَرَجَ حِينَ فَرَغَ مِنْ صَلاةِ الصُّبْحِ ، وَجَبِينُهُ ، وَرَوْثَةُ أَنْفِهِ ، فِيهِمَا الطِّينُ ، وَالْمَاءُ ، وَإِذَا هِيَ لَيْلَةُ إِحْدَى وَعِشْرِينَ مِنْ الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ ) . صحيح مسلم.

وليلة القدر هـي في العشر الأواخر من رمضان ، روى البخاري أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قال: (تحرَّوْا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان) .

وهي آكد في ليالي الوتر من العشر الأواخر ، لحديث عائشة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تحرّوا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر) رواه البخاري

وآكد ماتكون في السبع الآواخر ، ولذلك جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنه أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أُروا ليلة القدر في المنام ، في السبع الأواخر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحرّيها فليتحرّها في السبع الأواخر) رواه البخاري ومسلم

 ثم هي أرجى ما تكون ليلة السابع والعشرين من رمضان ، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ، من حديث ابن عمر عند أحمد ،  ومن حديث معاوية عند أبي داود ،  أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليلة القدر ليلة سبع وعشرين) خرّجه أحمد وأبو داود.
 
ومعنى ليالي الوتر :
 
أنه قد يكون بإعتبار الماضي ، فيطلب المتحرّي ليالي : إحدى وعشرين ، وثلاث .. إلخ
 
أو يكون بإعتبار الباقي ، لحديث ( لتاسعةٍ تبقى .. إلخ ) ، فحينئذ ، إذا كان الشهر ثلاثين ، كانت تلك من ليالي الإشفاع ، وليلة الثانية والعشرين تاسعة تبقى ، وليلة أربع سابعة تبقى ، كما فسّر ذلك أبو سعيد رضي الله عنه .
 
وإن كان الشهـر تسعا وعشرين ، كان التاريخ بالباقي كالتاريخ بالماضي .
 
وحكمة إخفائها، تحصيل الإجتهاد في جميع الليالي ، ولما في طلب ما فيه خفاء من استدعاء الهمم ، وتحريك رغبة البحث .

 وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قلت : يا رسول الله أرأيت أن وافقت ليلة القدر ما أقول ؟ قال : قولي : ( اللهم إنك عفوُّ كريم تحبُّ العفو فاعف عني ) رواه الإمام أحمد ، والترمذي (3513) ، وابن ماجة (3850) وسنده صحيح

والاعتكاف يصح بلبثِ قدْرٍ يُسمى عكوفا ، ولو ساعة ،
 
ويشترط أن يكون في مسجد ، وفي مسجد جماعة لمن تلزمه حضورها ،
 
ويبطل بالخروج من المسجد لغير عذر ،
 
وله أن يخرج لما لابد منه مثل البول والغائط ، وللأكل و الشرب ، إذا لم يجد من يأتيه به ، ويمشي على عادته إن خرج لذلك .
 
كما يخرج لصلاة الجمعة .
 
ويدخل المعتكف بغروب شمس ليلة العشرين من رمضان ، والنبيُّ صلّى الله عليه وسلم ، دخل خبائه الذي ضُرب له في المسجد بعد صلاة الفجر .
 
ويخرج من معتكفه إذا غربت شمس ليلة العيد
 
وفيما يلي ما ذكره الإمام ابن القيم في زاد المعاد عن هدي النبيّ صلى الله عليه وسلم في الإعتكاف ، وكلُّ قد جاءت به السنة الصحيحة :
 
( لما كان صلاح القلب ، واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى متوقفا على جمعيته على الله ، ولـَمِّ شعثه بإقباله بالكليّة على الله تعالى ، فإنّ شعت القلب لا يلمُّه إلاَّ الإقبال على الله تعالى .
 
وكان فضول الطعام والشراب ،
 
وفضول مخالطة الأنام
 
وفضول الكلام
 
وفضول المنام
 
مما يقطعه عن سيرة إلى الله تعالى ، أو يضعفه ،  أو يعوّقه ، أويوقفه.
 
اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعبادة أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب ، ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات المعوقة له عن سيره إلى الله تعالى ، وشرعه بقدر المصلحة بحيث ينتفع به العبد في دنياه وأخراه ، ولا يضرُّه ، ولا يقطعه عن مصالحه العاجلة ، والآجلة .
 
وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصود وروحه ، عكوف القلب على الله تعالى وجمعيته عليه ، والخلوة به ، والإنقطاع عن الاشتغال بالخلق ، والاشتغال به وحده سبحانه ، بحيث يصير ذكره وحبُّهُ ، والإقبال عليه في محلِّ هموم القلب ، وخطراته .
 
فيستولى عليه بدلها ، ويصير الهمُّ كلُّه به ،  والخطرات كلها بذكره ،  والتفكر في تحصيل مراضيه ، وما يقرب منه ، فيصير أنسُهُ بالله بدلا عن أنسه بالخلق ، فيعدُّه بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور ، حين لا أنيس له ، ولا ما يفرح به سواه  ، فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم .

ولما كان هذا المقصود إنما يتمُّ مع الصوم ، شرع الاعتكاف في أفضل أيام الصوم ، وهو العشر الأخير من رمضان ، ولم ينقل عن النبيِّ أنه اعتكف مفطرا قط ، بل قد قالت عائشة لا اعتكاف إلاّ بصوم ، ولم يذكر الله سبحانه الاعتكاف إلاّ مع الصوم ، ولا فعله رسول الله إلاّ مع الصوم.

فالقول الراجح في الدليل الذي عليه جمهور السلف ، أنّ الصوم شرط في الاعتكاف ، وهو الذي يرجّحُهُ شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية

وأما الكلام ، فإنه شُرع للأمة ، حبس اللسان عن كلّ مالا ينفع في الآخرة .

وأما فضول المنام ، فإنه شرع لهم من قيام الليل ، ما هو من أفضل السهر وأحمده عاقبة ، وهو السهر المتوسط الذي ينفع القلب والبدن ، ولا يعوق عن مصلحة العبد ،
 
ومدار رياضه أرباب الرياضات ، والسلوك على هذه الأركان الأربعة وأسعدهم بها من سلك فيها المنهاج النبوي المحمدي ، ولم ينحرف إنحراف الغالين ، ولا قصّر تقصير المفرّطين .
 
وقد ذكرنا هديـُهُ في صيامه ، وقيامه ،  وكلامه ،  فلنذكر هديُهُ في اعتكافه
.
كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفَّاهُ الله عزّ وجل ، وتركه مرة فقضاه في شوال

واعتكف مرة في العشر الأول ، ثم الأوسط ، ثم العشر الأخير ، يلتمس ليلة القدر ،  ثم تبيّن له أنها في العشر الأخير ، فداوم على اعتكافه حتى لحق بربّه عزّ ،  وجلّ .
وكان يأمر بخباءٍ فيُضرب له في المسجد ، يخلو فيه بربه عز وجل

وكان إذا أراد الاعتكاف صلّى الفجر ، ثم دخله ،  فأمر به مرة فضُرب فأمر أزواجه بأخبيتهنّ فضُربت ، فلمّا صلّى الفجر نظر فرأى تلك الأخبية ، فأمر بخبائه فقُوِّض ، وترك الاعتكاف في شهر رمضان ،  حتى اعتكف في العشر الأُوَل من شوال.

وكان يعتكف كلّ سنة عشرة أيام ، فلمَّا كان في العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوما
 
وكان يعارضُهُ جبريلُ بالقرآن كلَّ سنة مرّة ، فلمّا كان ذلك العام عارضه به مرتين ، وكان يعرض عليه القرآن أيضا ، في كلّ سنة مرة فعرض عليه تلك السنة مرتين .


 
وكان إذا أعتكف دخل قبّتَهُ وحده
 
وكان لا يدخل بيته في حال اعتكافه إلاّ لحاجة الإنسان
 
وكان يخرج رأسه من المسجد إلى بيت عائشة ، فترجلِّه وتغسّله وهو في المسجد / وهي حائض
 
وكانت بعض أزواجه تزوره وهو معتكف ، فإذا قامت تذهب قام معها يقلبها ،  وكان ذلك ليلا
 
ولم يباشر امرأة من نسائه ، وهو معتكف لا بقبلةٍ ، ولا غيرها
 
وكان إذا اعتكف طُرح له فراشُه ، ووضع له سريره في معتكفه
 
وكان إذا خرج لحاجته مرّ بالمريض وهو على طريقه ،  فلا يعرج عليه ، ولا يسأل عنه
 
واعتكف مرَّةً في قبة تركية ، وجعل على سدتها حصيرا ،
.
كلُّ هذا تحصيلاً لمقصود الإعتكاف ، وروحه .
 
عكس ما يفعله الجهّال من اتخاذ المعتكف موضع عِشْرة ،  ومجلبة للزائرين ، وأخذهم بأطراف الأحاديث بينهم ، فهذا لونٌ ، والاعتكاف النبوي  لونٌ ،  والله الموفق ) انتهى

الكاتب: زائر
التاريخ: 26/09/2008