أرجوا منكم إسعافنا بالرد على هذه الشبهة |
|
الحمد لله والصلاة والسلام على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه وبعــد :
الرد على هذه الشبهة من سبــعة أوجــه :
أولا من العلماء من كفـّر السلطان لقوله بخلق القرآن ، ودعا إلى الخروج عليه ، منهم الإمام الحافظ أحمد بن نصر الخزاعي ، وكان قد أعـدّ العدة للخروج عليه ، ولكنه قتل شهيدا ـ إن شاء الله ـ رحمه الله ، ولم يزل العلماء يسمونه الشهيد أحمد بن نصر الخزاعي .
وفي قصته عبر كثيرة وفوائد جمة ولهذا فلنذكرهـا بطولها :
قال الذهبي : الإمام الكبير الشهيد ، أبو عبدالله ، أحمد بن نصر بن مالك بن الهيثم الخزاعي المرزوي ثم البغدادي ، كان جده أحد نقباء الدولة العباسية وكان أمارا بالمعروف ، قوالا بالحق .
سمع من مالك وحماد بن زيد وهشيم وابن عيينة.
ثم قال الذهبي " قال الصولي : ثم تحرك في آخر أيام الواثق ، واجتمع إليه خلق يأمرون بالمعروف ، قال : إلى أن ملكوا بغداد ، وتعدى رجلان موسران من أصحابه ، فبذلا مالا ، وعزما على الوثوب في سنة إحدى وثلاثين ، فنم الخبر إلى نائب بغداد إسحاق بن إبراهيم ، فأخذ أحمد بن نصر وصاحبيه وجماعة ، ووجد في منزل أحدهما أعلاما ، وضرب خادما لأحمد بن نصر ، فأقر بأن هؤلاء كانوا يأتون أحمد ليلا ، ويخبرونه بما عملوا ، فحملوا إلى سامراء مقيدين ، فجلس الواثق لهم ، وقال لأحمد : دع ما أخذت له ، ما تقول في القرآن ؟
قال : كلام الله
قال : أفمخلوق هو ؟
قال : كلام الله
قال : فترى ربك في القيامة ؟
قال : كذا جاءت الرواية
قال : ويحكم يرى كما يرى المحدود المتجسم ، ويحويه مكان ويحصره ناظر؟ أنا كفرت بمن هذه صفته ، ما تقولون فيه ؟
فقال قاضي الجانب الغربي : هو حلال الدم ، ووافقه الفقهاء ( وكانوا معتزلة )
فأظهر أحمد بن أبي دؤاد أنه كاره لقتله ، وقال : شيخ مختل ، تغير عقله ، يؤخر
قال الواثق : ما أراه إلا مؤديا كفره ، قائما بما يعتقده ، ودعا بالصمصامة ، وقال ، وقال أحتسب خطاي إلى هذا الكافر ، فضرب عنقه بعد أن مدوا له رأسه بحبل ، وهو مقيد ، ونصب رأسه بالجانب الشرقي ، وتتبع أصحابه فسجنوا .
قال المروذي : سمعت أحمد بن ذكر أحمد بن نصر ، فقال : رحمه الله ، لقد جــاد بنفسه .
ثم قال الذهبي : وقيل حنق عليه الواثق لأنه ذكر للواثق حديثا ، فقال : تكذب ، فقال : بل أنت تكذب ، وقيل إنه قال له : يا صبي ، ويقول في خلوته عن الواثق : فعل هذا الخنزير ، ثم إن الواثق خاف مــن خروجه ، فقتله في شعبان سنة إحدى وثلاثين ، وكان أبيض الرأس واللحية .
ثم قال الذهبي " وقيل رئي في النوم ، فقيل له : ما فعل الله بك ؟ قال : ما كانت إلا غفوة حتى لقيت الله ، فضحك إلي ، وقيل : إنه قال : غضبت له فأباحني النظر إلى وجهه " .
سير أعلام النبلاء 11/166
وقال ابن كثير رحمه الله " وفيها ( 231هـ ) كان مقتل احمد بن نصر الخزاعي رحمه الله وأكرم مثواه ، وكان سبب ذلك أن هذا الرجل وهو أحمد بن نصر بن مالك بن الهيثم الخزاعي وجده مالك بن الهيثم من أكبر الدعاة في الناس إلى دولة بني العباس ، وكانت له وجاهة ورياسة ، وكان أبوه نصر بن مالك يغشاه أهل الحديث .
وقد بايعه العامة في سنة إحدى ومائتين على القيام بالأمر والنهي عن المنكر حين كثرت الدعار والشطار في أرجاء بغداد في الزمان غيبة المأمون عن بغداد كما قدمنا بسط ذلك ، وبه تعرف سويقة نصر ببغداد
وكان أحمد بن نصر هذا من أهل العلم والديانة والعمل الصالح والاجتهاد في الخير ، ومن أئمة المسلمين وأهل السنة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، وكان ممن يدعو إلى القول بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق ، وكان هارون الواثق من أشد الناس في القول بخلق القرآن ، يدعو إليه ليلا ونهارا ، سرا وجهارا ؛ اعتمادا على ما كان أبوه المعتصم وعمه المأمون عليه في ذلك من غير دليل ولا برهان ، ولا حجة ولا بيان ، ولا سنة ولا قرآن .
فقام أحمد بن نصر هذا يدعو إلى الله ، وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكــر ، والقول بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق ، في أشياء كثيرة دعا الناس إليها ، فاجتمع عليه ، جماعة من أهل بغداد ، والتف عليه من الألوف أعداد ، وانتصب للدعوة إلى أحمد بن نصر هذا رجلان ؛ وهما أبو هارون السراج يدعو أهل الجانب الشرقي ، وطالب يدعو أهل الجانب الغربي .
ثم ذكر أنـّه وأتباعه اتفقوا على ميعاد للخروج على الدولة ، غيــر أن خطة الخروج على السلطان قــد فشلت ..
ثم قال : " فجمع جماعة من رءوس أصحاب أحمد بن نصر معه ، وأرسل بهم إلى الخليفة بسرّ من رأى ، وذلك آخر يوم من شعبان من هذه السنة فأحضر له جماعة من الأعيان ، وحضر القاضي أحمد بن أبي دواد المعتزلي ...
فلما أوقف أحمد بن نصر بين يدي الخليفة الواثق لم يعاتبه على شيء مما كان منه ، في أمر مبايعة العامة له على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فأعرض عن ذلك كله ،
وقال له : ما تقول في القرآن ؟ فقال : هو كلام الله . قال : أمخلوق هو ؟ قال : هو كلام الله .
وكان أحمد بن نصر قد استقتل ، وحضر وقد تحنـّط وتنـوّر ،
فقال له الواثق : فما تقول في ربك ، أتراه يوم القيامة ؟
فقال : قد جاء القرآن والأخبار بذلك ، قال الله تعالى
قلت: وهذا الذي قاله الخليفة الواثق لا يرد ، ولا يلزم ، ولا يرد به مثل هذا الخبر الصحيح . والله أعلم .
ثم قال أحمد بن نصر الخزاعي للواثق : وحدثني سفيان بحديث يرفعه
فقال له إسحاق بن إبراهيم : ويلك ، انظر ما تقول .
فقال : أنت أمرتني بذلك . فأشفق إسحاق من ذلك ، وقال : أنا أمرتك بذلك ؟
قال : نعم ، أنت أمرتني أن أنصح له .
فقال الواثق لمن حوله : ما تقولون في هذا ؟ فأكثروا القول فيه ؛ فقال عبد الرحمن بن إسحاق وكان قاضيا على الجانب الغربي فعزل وكان موادّا لأحمد بن نصر قبل ذلك : يا أمير المؤمنين ، هو حلال الدم .
وقال أبو عبد الله الأرمني صاحب أحمد بن أبي دواد : اسقني دمه يا أمير المؤمنين .
فقال الواثق : يأتي علي ما تريد .
.. فقال الواثق : إذا رأيتموني قمت إليه فلا يقومن أحد معي ، فإني أحتسب خطاي .
ثم نهض إليه بالصمصامة وقد كانت سيفا لعمرو بن معديكرب الزبيدي أهديت لموسى الهادي في أيام خلافته ، وكانت صفيحة موصولة في أسفلها ، مسمورة بثلاثة مسامير فلما انتهى إليه ضربه بها على عاتقه ، وهو مربوط بحبل قد أوقف على نطع ثم ضربه أخرى على رأسه ثم طعنه بالصمصامة في بطنه فسقط رحمه الله صريعا على النطع ميتا فإنا لله وإنا إليه راجعون .
ثم انتضى سيما الدمشقي سيفه فضرب عنقه ، وحز رأسه ، وحمل معترضا حتى أتي به الحظيرة التي فيها بابك الخرمي فصلب فيها ، وفي رجليه زوج قيود ، وعليه سراويل ، وقميص ، وحمل رأسه إلى بغداد فنصب في الجانب الشرقي أياما ، وفي الجانب الغربي أياما ،
وعنده الحرس في الليل والنهار وفي أذنه رقعة مكتوب فيها : هذا رأس الكافر المشرك الضال أحمد بن نصر ، ممن قتل على يدي عبد الله هارون الإمام الواثق بالله أمير المؤمنين بعد أن أقام عليه الحجة في خلق القرآن ، ونفي التشبيه ، وعرض عليه التوبة ، ومكنه من الرجوع إلى الحق فأبى إلا المعاندة والتصريح ، فالحمد لله الذي عجله إلى ناره وأليم عقابه بالكفر ، فاستحل بذلك أمير المؤمنين دمه ولعنه .
ثم أمر الخليفة الواثق بتتبع رءوس أصحابه ، فأخذ منهم نحوا من سبعة وعشرين رجلا ، فأودعوا في السجون وسموا الظلمة ، ومنعوا أن يزورهم أحد وقيدوا بالحديد ، ولم يجر عليهم شيء من الأرزاق التي كانت تجري على المحبوسين ، وهذا ظلم عظيم .هذا ملخص ما قاله ابن جرير رحمه الله .
وقد كان أحمد بن نصر هذا ، رحمه الله ، من أكابر العلماء العاملين وممن كان قائما بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وسمع الحديث من حماد بن زيد ، وسفيان بن عيينة ، وهشيم بن بشير ، وكانت عنده مصنفاته كلها ، وسمع من الإمام مالك بن أنس أحاديث جيدة ، ولم يحدث بكثير من حديثه .
وحدث عنه أحمد بن إبراهيم الدورقي ، وأخوه يعقوب بن إبراهيم ، ويحيى بن معين ، وذكره يوما فترحم عليه ، وقال : قد ختم الله له بالشهادة ، وقد كان لا يحدث ؛ يقول : لست أهل ذاك . وأحسن يحيى بن معين الثناء عليه .
وذكره الإمام أحمد بن حنبل يوما فقال : رحمه الله ، ما كان أسخاه لقد جاد بنفسه لله ، عز وجل .
وقال جعفر بن محمد الصائغ : بصر عيناي وإلا فعميتا ، وسمعت أذناي وإلا فصمتا أحمد بن نصر حيث ضربت عنقه ، يقول رأسه : لا إله إلا الله .
وقد سمعه بعض الناس ، ورأسه مصلوب يقرأ على الجذع
ورأى بعض الناس في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعه أبو بكر وعمر وقد مروا على الجذع الذي عليه رأس أحمد بن نصر ، فلما حاذوه أعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه الكريم عنه ، فقيل له : يا رسول الله ما لك أعرضت عن أحمد بن نصر ؟ فقال : استحياء منه حين قتله رجل من أهل بيتي
ولم يزل رأس أحمد بن نصر منصوبا ببغداد من يوم الخميس الثامن والعشرين من شعبان من هذه السنة أعني سنة إحدى وثلاثين ومائتين إلى بعد عيد الفطر بيوم أو يومين من سنة سبع وثلاثين ومائتين ، فجمع بين رأسه وجثته ودفن بالجانب الشرقي من بغداد بالمقبرة المعروفة بالمالكية ، رحمه الله ،
وذلك بأمر المتوكل على الله الذي ، ولي الخلافة بعد أخيه الواثق بالله دخل عبد العزيز بن يحيى الكناني صحاب كتاب " الحيدة " على أمير المؤمنين المتوكل على الله وكان من خيار الخلفاء ؛ لأنه أحسن الصنيع لأهل السنة ، بخلاف أخيه الواثق ، وأبيه المعتصم ، وعمه المأمون فإنهم أساءوا إلى أهل السنة ، وقربوا أهل البدع والضلال من المعتزلة وغيرهم ،
فأمره أن ينزل جثة أحمد بن نصر ، ويدفنه ففعل ، وقد كان المتوكل يكرم الإمام أحمد بن حنبل إكراما زائدا جدا ، كما سيأتي بيانه في موضعه .
والمقصود أن عبد العزيز الكناني قال للمتوكل : يا أمير المؤمنين ، ما رئي أعجب من أمر الواثق ؛ قتل أحمد بن نصر وكان لسانه يقرأ القرآن إلى أن دفن .
فوجد المتوكل من ذلك ، وساءه ما سمع في أخيه الواثق ، فلما دخل عليه الوزير محمد بن عبد الملك بن الزيات ، قال له المتوكل : في قلبي من قتل أحمد بن نصر .
فقال : يا أمير المؤمنين ، أحرقني الله بالنار إن قتله أمير المؤمنين الواثق إلا كافرا . ودخل عليه هرثمة فقال له في ذلك ، فقال : يا أمير المؤمنين ، قطعني الله إربا إربا إن قتله الواثق إلا كافرا . ودخل عليه القاضي أحمد بن أبي دواد ، فقال له مثل ذلك ، فقال : ضربني الله بالفالج إن قتله الواثق إلا كافرا .
قال المتوكل : فأما ابن الزيات فأنا أحرقته بالنار ،
وأما هرثمة فإنه هرب وتبدى فاجتاز بقبيلة خزاعة فعرفه رجل من الحي ، فقال : يا معشر خزاعة ، هذا الذي قتل ابن عمكم أحمد بن نصر فقطعوه . فقطعوه إربا إربا ،
وأما ابن أبي دواد فقد سجنه الله في جلده يعني بالفالج ضربه الله به قبل موته بأربع سنين ، وصودر من صلب ماله بمال جزيل جدا ، كما سيأتي بيان ذلك في موضعه .
وروى أبو داود في كتاب " المسائل " عن أحمد بن إبراهيم الدورقي ، عن أحمد بن نصر قال : سألت سفيان بن عيينة : " القلوب بين أصبعين من أصابع الله ، وإن الله يضحك ممن يذكره في الأسواق " . فقال : ارووها كما جاءت بلا كيف " انتهى من البداية النهاية حوادث سنة 231هـ الجزء العاشــر
وتدبر أن هذين الإمامين الذهبي وابن كثير رحمهما الله ، وهما من أكابر علماء الأمة في معرفة الرجال وتاريخ الإسلام ، أثنيــا ثناء عظيمـا على الإمام أحمد بن نصر الخزاعي ، ونقلا كلام العلماء في الثناء عليه ، مع أنه كفـّر الخليفة ، ودعا إلى الخروج عليه ، وأعد لذلك العدة ، وقتله الخليفة بحكم القضاة ـ لا بحكم استخبارات أمن الدولة ـ وكان الخليفة آنذاك حاكما بالشرع ، قائما بالجهاد ، وحمله على القول بخلق القرآن تنزيه الله فيما زعم جهلا منها وضلالا ، ولكنه لم يستبدل بالشريعة غيرها ، ولم يسلم المسلمين إلى أعداءهم ، ولم يوال الكفار ، بل كانوا يرهبونه أشد الرهبة ، وكانت الأمة في عهده مهيبة الجانب .
فما بال هؤلاء المجادلين عن الطواغيت الحاكمة بغيـر الشرع الموالية لليهود والنصارى ، يحاربون الخارجين عليهم بلا هــوادة ، أشد مما يحاربون أعداء الله من اليهود والنصارى ، بل صار همهم الأكـبر ، وديدنهم الأعظم ، الطعن في الخارجين على طواغيت العصر ؟! وسلم منهم اليهود والنصارى المحاربون ، والطواغيت الذين هم للشرع معاندون ، فلا يكادون يذكرونهم بسوء إلا باليسير على استحياء ، وبخفض الصوت بلا حيــاء ؟!
فهلاّ اقتدوا بالسلف إن كانوا حقا متبعين لهم ، بل هم والله أهــل طمع فيما بيد السلطان ، يتقربون إليه بدينهم ، يأكلون به ، ويشترون بآيات الله ثمنا قليلا ، أعاذنا الله تعالى من مسالك الردى ، واتباع الهوى .
ثانيــــــــــا :
الفرق بين ما كان عليه السلطان من القول بخلق القرآن ، وبين ما عليه الحاكمون بالطاغوت ، الموالون لأعداء الإسلام ، أن انحراف الأول في تأويل القرآن وليس في تنزيله ، وانحراف الحاكمين للطاغوت المتحاكمين إليه الموالين لأعداء الله ، في تنزيل القرآن .
وفي الأول يقبل أن يكون التأويل عذرا يمنع عن تكفير المعين ، مع إطلاق القول بالكفر ، أما الحاكمون للطاغوت المتحاكون إليه ، الموالون لأعداء الله تعالى ، فنصوص الكتاب والسنة قاطعة في تكفيرهــم ، والإجماع منعقد على ذلك ، وهم زنادقة ، لا يعظمون الشرع ، بل يعطّلونه ، ويستبدلون غيره به ، ويعينون أعداء الإسلام عليه وعلى أهله ، فلا يقبل التأويل هنا ، مع أن هؤلاء الطواغيت ليسوا متأولين أصلا ، بل هم مستحلون لما يفعلونه من الكفر ، وكيف يكونون متأولين وهم معطلون للشرع أصلا ، وإنما يتصور التأويل عند من يعظم الشرع ويتحاكم إليه فيخطىء في فهمه ، أو يخشى أن يعتقد في الله غير الحق ، وتقوم عنده شبهة تحمله على تأويل نصوص القرآن لتتفق مع شبهته ، كما كان يقع لأهل الكلام ، أما من يعطل الشرع ولايرفع به رأسا ، فكيف يكون متأولا فيما يفعل ، ولاريب أن الذي يقيـتس هذا على هذا ، هــو من أجهل الناس وأغباهم .
وقد قــال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في بيان أن التأويل ـ فيما يقبل فيه مانعا للتكفير ـ يمنع من الحكم بالــردة :
" حقيقة الأمر أنهم ـ يعني الذين يكفرون أهل البدع مطلقا ـ أصابهم في ألفاظ العموم في كلام الأئمة ما أصاب الأولين في ألفاظ العموم في نصوص الشارع كلما رأوهم قالوا : من قال كذا فهو كافر اعتقد المستمع أن هذا اللفظ شامل لكل من قاله ، ولم يتدبروا أن التكفير له شروط وموانع قد تنتقي في حق المعين ، وأن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط ، وانتفت الموانع ، يبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة : الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه .
فإن الإمام أحمد - مثلا - قد باشر " الجهمية " الذين دعوه إلى خلق القرآن ونفي الصفات وامتحنوه وسائر علماء وقته وفتنوا المؤمنين والمؤمنات الذين لم يوافقوهم على التجهم بالضرب والحبس والقتل والعزل عن الولايات وقطع الأرزاق ورد الشهادة وترك تخليصهم من أيدي العدو .
بحيث كان كثير من أولي الأمر إذ ذاك من الجهمية من الولاة والقضاة وغيرهم : يكفرون كل من لم يكن جهميا موافقا لهم على نفي الصفات مثل القول بخلق القرآن ويحكمون فيه بحكمهم في الكافر فلا يولونه ولاية ولا يفتكونه من عدو ولا يعطونه شيئا من بيت المال ولا يقبلون له شهادة ولا فتيا ولا رواية ويمتحنون الناس عند الولاية والشهادة والافتكاك من الأسر وغير ذلك .
فمن أقر بخلق القرآن حكموا له بالإيمان ومن لم يقر به لم يحكموا له بحكم أهل الإيمان ومن كان داعيا إلى غير التجهم قتلوه أو ضربوه وحبسوه .
ومعلوم أن هذا من أغلظ التجهم فإن الدعاء إلى المقالة أعظم من قولها وإثابة قائلها وعقوبة تاركها أعظم من مجرد الدعاء إليها والعقوبة بالقتل لقائلها أعظم من العقوبة بالضرب .
ثم إن الإمام أحمد دعا للخليفة وغيره ، ممن ضربه وحبسه واستغفر لهم وحللهم مما فعلوه به من الظلم والدعاء إلى القول الذي هو كفر ولو كانوا مرتدين عن الإسلام لم يجز الاستغفار لهم ؛
فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنة والإجماع وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية الذين كانوا يقولون : القرآن مخلوق وإن الله لا يرى في الآخرة .
وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه كفر به قوما معينين فأما أن يذكر عنه في المسألة روايتان ففيه نظر ،
أو يحمل الأمر على التفصيل . فيقال : من كفره بعينه ؛ فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه ومن لم يكفره بعينه ؛ فلانتفاء ذلك في حقه هذه مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم .
والدليل على هذا الأصل : الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار . أما الكتاب : فقوله سبحانه وتعالى : { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به } وقوله تعالى { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } . وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم { أن الله تعالى قال : قد فعلت لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون بهذا الدعاء } .
وروى البخاري في صحيحه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " { أعطيت فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش } " و " { أنه لم يقرأ بحرف منها إلا أعطيه } " . وإذا ثبت بالكتاب المفسر بالسنة أن الله قد غفر لهذه الأمة الخطأ والنسيان فهذا عام عموما محفوظا وليس في الدلالة الشرعية ما يوجب أن الله يعذب من هذه الأمة مخطئا على خطئه وإن عذب المخطئ .
من غير هذه الأمة . و " أيضا " قد ثبت في الصحيح من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { إن رجلا لم يعمل خيرا قط فقال لأهله : إذا مات فأحرقوه ثم اذروا نصفه في البر ونصفه في البحر فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين فلما مات الرجل فعلوا به كما أمرهم فأمر الله البر فجمع ما فيه وأمر الب
الكاتب: سائل
التاريخ: 13/12/2006