ارحموا العاشقين !! |
|
السؤال:
فضيلة الشيخ إني أرغب في الزواج من فتاة أحبها ، وهي راغبة ، وأبي يقول لي ردّونا أول مرة ، ولن أذهب إليهم ، فياليت توجه نصيحـة للوالدين أن يتقوا الله في أولادهم إذا طلبوا الحـلال فوالله لانريد إلا الحلال ونبرأ من الحرام ، ولكن أباءنا لايساعدوننا يضعون أمامنا العراقيـل !!
***************
جواب الشيخ:
نصيحة إلى الآباء الذين يمنعون أولادهم ، أو بناتهم من الزواج ممن يرغبون لأسباب غير شرعية ، مبنية على غير المصلحة الدينية
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد :
ورد فيما رواه ابن ماجة الحاكم والبيهقي وغيرهم من حديث ابن عباس مرفوعــا بلفظ : لم ير للمتحابين مثل النكاح
وفي الحديث الصحيح : " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن مسعود
وفي قوله تعالى " إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله " الآية.
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : رغبهم الله في التزويج وأمر به الأحرار والعبيد ووعدهم عليه الغنى فقال : " إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله"
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثلاثة حق على الله عونهم الناكح يريد العفاف والمكاتب يريد الأداء والغازي في سبيل الله " رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه.
خلافا لما يظنه كثير من الآباء والأمهات ، فالأولاد لهم حقوق على الوالدين ، وحقوقهم عظيمة ، والأمانة الملقاة على عاتق الوالدين جسيمة ، فبيد الوالدين التحكم في مصير الأولاد منذ الصغر ، كما يمكنهما تحديد مسيرة حياتهما عند النضوج ، وعلى وفق اختيار الوالدين ـ في أكثر الأحيان ـ يتشكل مستقبل الولد أو البنت ، وذلك كله بتقدير وتدبير الله تعالى الذي بيده الخير كله ، وإليه يرجع الأمر كله ، علانيته وسره .
ولعل أهمّ مرحلة من مراحل حياة الولد ـ ذكرا كان أو أنثى ـ هو اختيار الزوجة ، أو الزوج ، فهذا منعطف أساسي ومصيري في حياته ، فقد يترتب على حسن الإختيار ، وسلامة القرار في الزواج سعادته ، أو تعاسته .
ومعلوم أن الزواج ليس عملية مادية حسابية ، أو وظيفة يجمع فيها موظفان في عمل ، إنه عقد سماه الله تعالى ( وأخذن منكم ميثاقا غليظا ) ، وقال عنه النبي صلى الله عليه وسلــم ( أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله تعالى ) ، وهو اقتران روحي ، وعاطفي ، قبل أن يكون اقترانا جسديا ، هو اتحاد بين نفسين متآلفتين ، وصفه الله تعالى بقوله ( هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ) .
وإذا لم يكن هذا الاتحاد ممزوجا بالسكن والمودة والرحمة ، كما قال تعالى : ( خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمه ) ، فإنه ربما يتحول إلى شقاء وعذاب .
ومن هنا لــم يصلح في هذه الشريعة الكاملة ، أن يكون اتخاذ قرار الاقتران بين الزوجين ، من غيرهما ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلــم ( لا تنكح الثيب حتى تستأ مر ولا تنكح البكر حتى تستأذن ) متفق عليه ،
وإنما خـص النبي صلى الله عليه وسلم المرأة ، لأن الرجل هو الذي يتخذ في العادة قراره ، ولهذا أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يحمي هو بنفسه قرار نساء أمته ، فتدخل وأطلق هذا الحكم النهائي الذي يسري على جميع الأمة ، ولا يحل لأحد أن يخالفه . وأحيانا يمنع الأب تزويج ابنه من امرأة يحبها ويرغب فيها ، وهي تريده كذلك ، بسبب موقف نفسي لا أساس له من عقـل رشيـد ولا رأي سديد ، فيعيش الولد المسكين في عذاب لايشعر به والده ، ولسان حاله يقول : الشوق بين جوانجي يتردّد ** ودموع عيني تستهلّ وتنفد إني لأطمع ثم أنهض بالمنى ** واليأس يجذبني إليه فأقعــد أويكون دافع الأب بسبب رغبة في تأديب اسرة المرأة انتقاما لموقف سابق ، وفي هذا من الظلم للولد ، والمعارضة لمراد النبي صلى الله عليه وسلم الذي أوصى بأنه ليس للمتحابين مثل النكاح ، وأمر بتيسير الزواج ، وإلغاء العراقيل التي تقف في طريقه ، فيه من الظلم والمعارضة للشريعة ، ما يجعل الأب يأثم على فعلته ، ويعاقب على جريرته . ولهذا السبب أبطل النبي صلى الله عليه وسلم نكاح الشغار ، لأنه يحول الأولاد إلى وسيلة تبادل مصالح للوالدين ، وجاء في الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود : ( أن العباس بن عبد الله بن عباس أنكح عبد الرحمن بن الحكم ابنته، و أنكحه عبد الرحمن ابنته و كانا جعلا صداقا فكتب معاوية إلى مروان يأمره إلى أن يفرق بينهما، وقال هذا الشغار الذي نهى عنه رسول الله ) . وعلى الوالدين أن يتذكّرا : أنّ فلان وفلانة ، من بني آدم ، والإنسان ليس آلة ، فلا يمكنه أن يعيش حياة يفترض أن يكون مبناها على العاطفة ، بطريقة توزيع الأثاث والمتاع !! لأن مصير هذه الحياة سيكون الفشل حتما. هذا وقد يقول قائل إنه فيما مضى من زمان آباءنا وأجدادنا ، قد كانت المرأة يزوجها أهلها من لاتعرفه ، وكذا الشاب يزوجه أهله من لا يعرف عنها شيئا ، وقد استقرت كثير من الأسر ، بل كانت أشد استقرارا مما نراه هذه الأيام من التشتت الأسرى المنتشر في المجتمعات . أما أولئك الذين يحولون دون سعادة الولد الراغب في الإقتران بامراة يحبها وترغب فيه ، بسبب إستعلاء النفس عن أسرة الفتاة ، لانها سبق أن ردت الخاطب ، ثم عادت فقبلت به ، فهؤلاء الآباء عليهم أن يتقوا الله تعالى حق تقاته ، فإن هذا النظر القاصـر يحطـم قلبين ، وقد يكون سببا في فساد عريض ، وعملهم هذا يتناوله الترهيب النبوي الكريم في قوله : (عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض) خرجه الترمذي من حديث أبي هريرة . وفي هذا الحديث بيان واضح أن وقوف الوالدين في طريق النكاح ، سواء والد الفتاة ـ ومثله في الحكم والد الشاب ـ سبب في الفتنة والفساد العريض ، وهذا إنما هو عمل الشيطان نفسه ، فهو الداعي إلى الفتنة والفساد العريض ، فكيف يختار عاقل لنفسه أن يكون عمله مثل عمل الشيطان أعاذنا الله والمسلمين منه . حامد بن عبدالله العلي هذا وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا والله أعلم .
والحكمة من وراء اتخاذ النبي صلى الله عليه وسلم هذا القرار ، هو حماية الأسرة الإسلامية من الانهيار ، لأن من أعظم الأسباب في انهيارها هو أن يتدخل الوالدان في مصير عقد الزواج أولادهما ، فيتحكمان فيه ، ويحولانه إلى مشروع صداقة لهما ، أو رد جميل لشخص أو لأسرة أخرى، أو ربما مشروع تجاري ، أو طمع في مادة .. إلخ .
وكثيرا ما تكون للأم رغبة في فتاة لأنها تحبها ، وتجدها قريبة من نفسها ، فتريدها أن تكون قريبة منها ، فتجعل ولدها المسكين وسيلة للوصول إلى هذا الهدف ، وتستغل حقها على ابنها ، لتضغط عليه ، ليقبل بالاقتران بفتاة لا يحبها ، فيتزوجها لانجاح مشروع أمه فحسب ، ثم لا يلبث الزواج حتى ينهار ، بعد عذاب وشقاء يعيشه الزوجان ، يحاولان فيه كتم مشاعرهما ، ثم يحدث الانفجار المدمر ، بالطلاق وضياع الأولاد ، والسبب هو أن قرار الزواج لم يُبن على أساس سليم .
ولهذا السبب أمر النبي صلى الله عليه وسلم من يخطب امرأة أن يراها ، وقال : ( انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما ) رواه الترمذي والنسائي ، والحكمة من هذا الإرشاد : أن البصر رسول القلب ، وإذا أحب القلب ، فإن الحب هو سياج الحياة الزوجية، وهو عطرها الفواح ، وهو دواء كل مشكلات الزواج ، وهو لحمة الأسرة، فأحرى أن يدوم النكاح إذا كان عن رغبة ولهذا قال ( يؤدم ) أي يدوم .
و الأب العاقل ، والأمّ العاقلة التي تريد السعادة لابنها ، أو لابنتها ، لايمكن أن يتدخلا في قرار اتخاذ الزوجة ، أو الزوج ، إلا أن يكون تدخلــهما مشورة غير ملزمة ، أو تعريفا يكونان فيه واسطة خير ، ثم يدعان القرار الأخير بيد ابنهما ، أو ابنتهـمــا ، هذا إذا كانا يريدان سعادة الأبناء ، ولا يريدان ارتكاب الخطأ الجسيم في جمع أسرة خالية من أهم ما تقوم عليه الاسرة وهي : عاطفة الحب الجميلة .
إنّ الزواج لا يصلح أن يوزّع الوالدان فيه الأولاد على القريبات ، كما توزع التركة ، أو العطايا والهبات ، فلان لفلانه ، وفلانه لفلان ، رفعت الأقلام وجفت الصحف !!
والأب الحكيم ، والأم الحكيمة يقولان لولدهمـا ما رأيك بفلانه ، ويخبرانه عن رأيهما فيها ، ويقولان له : لو أنك اقترنت بها فهو أحبّ إلينا ، ولا نرغمك على حياة زوجية ليست لنفسك رغبة فيها ، لأننا لسنا الذين سنعيش معها ،بل أنت ، ثم إذا وجدا ابنهما ليس راغبا ، لم يجبراه على شيء ، وإن أحب أن ينكح امرأة سواها ، سعيا في تحقيق رغبته ، ولايسدان الطريق أمامه ، وهكذا مع البنت سواء ، إن جاءها خاطب أو اختارا لها خاطبا .
فنقول نعم ، كما أنه يمكننا أن نشهد قائلين : كم من الأسر فشلت أيضا ، وكم من فتاة عاشت حياتها جحيما لا يطاق لأنها أجبرت على زوج لا يحبها لأنه أكره عليها ، والعكس ، فلا نغفل هذه الناحية أيضا ، كما لا يجوز أن نغفل أن الحياة تغيرت كثيرا ، فالفتاة في الماضي كانت لاترى إلا زوجها ، والزوج لا يكاد يرى إلا زوجته ، قبل وبعد النكاح ، ثم إن بساطة الحياة فيما مضى ، وبعدها عن الفتن ، ونسيح المجتمع نفسه كان يقلل من الآثار السلبية لأخطاء الوالدين في تزويـج الأولاد .
أما اليوم في هذا العصر المليء بالفتن ، والذي أصبح الطلاق فيها منتشرا انتشارا مفزعا ، فإن أعظم أسباب الوقاية من انهيار الأسرة ، وحماية الزوجين من الانحراف ، هو الحرص على توفير كل أسباب أن لا يجتمع الزوجان إلا بدافع رغبة كل منهما في الآخر ، أو على الأقل ، عدم الإكراه في اتخاذ قرار الاقتران .
وختاما أنصح الوالدين أن يكونا على مستوى المسؤولية تجاه مستقبل أولادهما ، وأن يعلما أن للأولاد حقا على الوالدين ، وأعظم حق عليهما أن يتجنبا الإكراه والضغط النفسي في مشروع الزواج ، فإن كل شيء آخر قد يحتمل جزءا من ضغط الوالدين ، إلا الزواج ، ولهذا لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بمراعاة رضا المرأة كما أمر في موضوع النكاح