فضيلة الشيخ عندما حفرنا قبر أحد الشهداء الذين استشهدوا في حرب الفرقان في غزة لندفن معه آخر ، وجدناه قد تحلل ، وسمعنا أن الأرض لاتأكل أجساد الشهداء فكيف هذا ؟!

 

الحمد لله والصلاة والسلام على نبيّنا محمّد ، وعلى آله وصحبه وبعد :
 
فلا يُشرع نبش قبر الميت لغير ضرورة ، أما ما ذكرته من تحلل جسده ، فإنَّ فضائل الشهيد عظيمة ، حتى إنـَّه لم يرد في فضل شيءٍ من الأعمال ،  ما ورد في فضل الشهادة فـي سبيل الله ، ولهذا تمنّى نبيّنا صلى الله عليه وسلم أن يُقتل في سبيل الله ثم يحيا ، ثم يقتل ثم يحيا ، ثم يقتل ، رواه مسلم وغيره ،
 
وقـد صحّ في سنن أبي داود أنَّ الأرض لاتأكل أجساد الأنبياء ، لكـنْ لم يصح _ فيما أعلم _  حديثٌ أنّ أجساد الشهداء لاتتحلل بعد الموت ، فلو وجدنا من نحسبه شهيداً ، قد تحلّل جسده بعـد دفنه ،  أو موتـه ، فهذا لايضـرُّه في شيء ، وهو على فضله الذي ناله ، وعلى ما أكرمه الله به من الشهادة ،
 
 وإختيار الله تعالى له أن يكون موتـه وآخـر عمله في قتالٍ في سبيل الله ، ثـمَّ يجري على ألسنة المسلمين ذكره الحسن _ كما قيل ألسنة الخلق صوت الحق _ شاهـدٌ على فضله ، وعلى خاتمة الخير له ، نسأل الله من فضله العظيـم .
 
وإنما صحـّت روايات تدل على وقوع ذلك _ أعني عدم تحلّل الجسد بعد الموت _ كرامة من الله تعالى لبعض الشهداء ، كما ثبت ذلك أيضا لغيرهم من الصالحين ، فظنَّ من ظنَّ أن الشهداء كلّهم يقع لهم ذلك.

وقـد وجدت كلاماً حسناً لمجدد الجهـاد فضيلة الشيخ العلامـة  عبد الله عزام رحمه الله في هذه المسألة ، قال : ( أصبح من المتواتر ، أنّ كثيراً من أجساد الشهداء لا تتغير ، ولا تتعفن  ، وقد نصّ فقهاء الحنفية ، والشافعية على هذا ، جاء في نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج للرملي الشافعي في شرح عبارة المنهاج في كتاب العارية : ( إلاّ إذا أعار أرضا للدفن ، فلا يرجع حتى يندرس أثرالمدفون ، وعلم من تعبيره بالإندراس لزومها (العارية) في دفن النبي صلى الله عليه وسلم ، والشهيد لعدم بلائهما ) 5/ 131

وكذلك نص ابن عابدين الحنفي في حاشيته على كتاب الجهاد (ج 3238): أن جسد الشهيد حرام على الأرض أكله ، ولكنني لم أجد نصا مرفوعا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، يقطع بعدم بلاء جسد الشهيد ، وقد روى البيهقي بإسناد حسن ،  أنّ العين عندما فاضت زمن معاوية رضي الله عنه سنة 46 هـ ، قرب قبر حمزة رضي الله عنه ، وجرفت التراب ، وجدوا جثة حمزة رضي الله عنه لم تتغيـر )
 
ومما ورد في هذا الباب ، ما رواه البخاري عن جابررضي الله عنه قال : ( لما حضر أحـدٌ ، دعاني أبي من الليل ، فقال : ما أراني إلاّ مقتولاً في أوّل من يقتل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وإني لا أترك بعدي أعز عليَّ منك،  غير نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنّ عليَّ ديناً ، فاقض ، واستوص بأخواتك خيراً ،  فأصبحنا فكان أول قتيل ، ودفن معه آخر في قبر ، ثم لم تطب نفسي أن أتركه مع الآخر ،  فاستخرجته بعد ستة أشهر ، فإذا هو كيوم وضعته هنية غير أذنه ) ،  قال ابـن حجر:( وكرامته بكون الأرض لم تُبـْلِ جسده ، مع لبثه فيها ، والظاهر أن ذلك لمكان الشهادة )  فتح الباري 3/277 .
 
وقـد قال الحافظ ابن حجر : ( وقد ذكر ابن إسحق القصة في المغازي ، حدثني أبي ، عن أشياخ من الأنصار ،  قالوا : لما ضرب معاوية عينه التي مرت على قبور الشهداء ، انفجرت العين عليهم ، فجئنا فأخرجناهما - يعني عمرواً وعبد الله – وعليهما بردتان ، قد غُطي بهما وجوههما ، وعلى أقدامهم شيء من نبات الأرض ، فأخرجناهما يتثنيان تثنياً كأنهما دفنا بالأمس ، وله شاهد بإسناد صحيح ، عند ابن سعد ، من طريق أبي الزبير عن جابر ) فتح الباري 3/276 .

وقد روى القصـة أيضـا الإمام مالك بلاغـا _ وصححه ابن عبدالبـر _  في الموطـأ : ( أن عمرو بن الجموح ، وعبد الله بن عمرو الأنصاريين ، ثم السُلميّين ، كانـا قد حَفـر السيل قبرهما ، وكان قبرهما مما يلي السيل ، وكانا في قبر واحد ، وهما ممن استشهد يوم أحد فحفر عنهما ، ليغيرا من مكانهما ، فوُجدا لم يتغيرا ، كأنهما ماتا بالأمس ، وكان أحدهما قد جرح ، فوضع يده عل جرحه ، فدفن وهو كذلك ، فأميطت يده عن جرحه ، ثم أرسلت ، فرجعت كما كانت ، وكان بين أحد ، وبين يوم حُفـر عنهما ست وأربعون سنة )  الموطأ  1/374 .
 
وفي رواية أخرى قال جابر رضي الله عنـه: (  استصرخ بنا إلى قتلانا يوم أحد ،  وأجرى معاوية بن أبي سفيان العين ، فاستخرجهم بعد ستة وأربعين سنة ، لينة أجسادهم تنثني أطرافهم ) ،
 
ورجح ابن عبد البر _ كما في فتح المالك بتبويب التمهيد على موطأ مالك _ أنهم استخرجوا بعد ست وأربعين سنة ،  لأنّ معاوية لم يجر العين إلاّ بعد اجتماع الناس عليه خليفة ، وكان اجتماع الناس عليه عام أربعين من الهجرة في آخرها ، وقد قيل : عام إحدى وأربعين ، وذلك حين بايعه الحسن بن علي ، وأهل العراق فسُمي عام الجماعة وتوفي سنة ستين ، وقد روى أبو مسلمة سعيد بن يزيد ، عن أبي نضرة ،  عن جابر أنهم أخرجوا بعد ستة أشهر ، فإن صح هذا ، فمرتين أخرج والد جابر من قبره ، وأماخروجه وخروج غيره في حين إجراء معاوية العين فصحيح ، وذلك بعد ستة وأربعين عاماً ، على ما في حديث مالك وغيره ) 6/359 .

ثم أورد ابن عبدالبر كما في فتح المالك بعد هذه بصفحة ، رواية أخرى عن جابر قال : ( لما أراد معاوية أن يجري العين بأحد ، نودي بالمدينة من كان له قتيل فليأت قتيله ،  قال جابر : فأتيناهم فأخرجناهم رطاباً يتثنـّون ، فأصابت المسحاة أصبع رجل منهم فانفطرت دماً ، قال أبو سعيد الخدري لا يَنكر بعد هذا منكرٌ أبـداً ،
 
وقال ابن عبدالبر:  ( الذي أصابت المسحاة إصبعه هو حمزة رضي الله عنه ، رواه عبد الأعلى بن حماد قال : حدثنا عبد الجبار يعني ابن الورد ، قال : سمعت أبا الزبير يقول : سمعت جابر بن عبدالله يقول : رأيت الشهداء يخرجون على رقاب الرجال كأنهم رجال نوم ، حتى إذا أصابت المسحاة قدم حمزة رضي الله عنه فانبثقت دماً )
 
وقال الإمام النووي في المجموع : ( ذكر ابن قتيبة في المعارف ‏، وغيره ، أنّ طلحة بن عبيد الله أحد العشرة رضي الله عنهم ، دفن فرأته بنته عائشة بعد دفنه ‏بثلاثين سنة في المنام ، فشكا إليها النَّـزَّ _ ماء يسيل من الأرض _  فأمرت به فاستخرج طرياً ،  فدفن في داره بالبصرة ،  ‏قال غيره قال الراوي : كأني أنظر إلى الكافور في عينيه لم يتغير، إلاّ عقيصته فمالت عن ‏موضعها ، واخضرّ شقّه الذي يلي النّـزّ) .

ومن عجائب ما جاء في هذا الباب ، ما في جامع الترمذي عن قصة أصحاب الأخدود وفيه : ( فأما الغلام فإنـّه دفن قال : فذكر أنـّه أخرج في زمن عمر بنالخطاب ، وإصبعه على صدغه ، كما وضعها حين قتل ) .
 
وفي تحفة الأحوذي عن ابن إسحق قال : ( وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، أنـّه حُدّث ، أنّ رجلاً من أهل نجران ، كان زمان عمر بن الخطاب حفر خربة ، من خرب نجران لبعض حاجته ، فوجد عبد الله بن التامر تحت دفن فيها قاعـداً ، واضعـاً يده على ضربة فيرأسه ، ممسكاً عليها بيده ، فإذا أخذت يده عنها انبعث دماً ، وإذا أرسلت يده ردت عليها ،فأمسكت دمها ، وفي يده خاتم مكتوب فيه ( ربي الله)  فكتب فيه إلى عمر بن الخطاب يخبره بأمره ، فكتب عمر إليهم أن أقروه على حاله ، وردُّوا عليه الذي كان عليه ففعلوا ) 9/186 .
 
ومما ورد أيضا ما ذكره الفقيه العالم محمد العثيمين كما فـي الشـرح الممتع 3/252 قال ، ( وقد حدثني بعضُ النَّاسِ ،  أنَّهم في هذا البلد هنا في عنيزة ، كانوا يَحْفِرُون لسور البلد الخارجي ، فمرُّوا على قَبْرٍ ، فانفتح اللَّحْدُ ، فوجدوا فيه ميتاً ،  قد أكلت كَفَنَه الأرضُ ، وبقي جسمُه يابساً ؛ لكن لم تأكل منه شيئاً ، حتى إنهم قالـوا : إنهم رأوا لحيته وفيها الحناء ، وفاح عليهم رائحة كأطيب ما يكون من المسك ، فتوقَّفوا وذهبوا إلى الشيخ ، وكان في ذلك الوقت هـو عبدالله بن عبد الرحمن أبا بطين ،  وسألوه ، فقال: دعوه على ما هو عليه وجنِّبوا عنه ،فاحفِروا عن يمين ، أو يسار )؟
 
هذا ولابأس أن ننقل هنا أيضا ما جاء من كرامات الصالحين بعد موتهم مما يقرب من هذا الباب :

فعـن محمد بن أبي حاتم الوراق : سمعت غالب بن جبريل _ وهو الذي نزل عليه البخاري بخرتنك _ قال...وذكر قصة وفاة البخاري وفيها :  ( .. فلما أدرجناه في أكفانه ، وصلينا عليه ، ووضعناه في حفرته ، فاح من تراب قبره رائحة طيبة كالمسك ، ودامت أياما ، وجعل الناس يختلفون إلى القبر أياما ، يأخذون من ترابه إلى أن جعلنا عليه خشبا مشبكا )

وعـن أبي جعفر السراج عن بعض شيوخه قال : ( كشف قبر بقرب الإمام أحمد رحمه الله ،  وإذ على صدر الميت ريحانة تهتــزّ ) .

 
وعن مسكين بن بكير ،  أنّ ورادا العجلي لما مات ، فحمل إلى حفرته نزلوا ليدلوه في حفرته ، فإذا اللحد مفروش بالريحان ، فأخذ بعضهم من ذلك الريحان ، فمكث الناس يفعلون ذلك ،  فأخذه الأمير ، وفرق الناس خشية الفتنة ، ففقده من منزله لا يدري كيف ذهب )

وعن محمد بن مخلد الدوري الحافظ قال : " ماتت أمي فنزلت ألحدها ، فانفرجت لي فرجة عن قبر بقربها ، فإذا رجل عليه أكفان جدد ، وعلى صدره طاقة ياسمين طرية ، فأخذتها فشممتها ، فإذا هي أذكى من المسك ، وشمها جماعة كانوا معي ، ثم رددتها إلى موضعها وسددت الفرجة ) .
 
ونسأل الله تعالى من فضله العظيم ، حسن الخاتمـة آمين

الكاتب: زائر
التاريخ: 11/07/2010