فضيلة الشيخ بعض الناس يذهب في الإجازة الصيفية لبعض البلاد ـ لاداعي نقول أسماءها ـ ويتزوج زواج عطلة فقط ، وهناك عندهم علم بذلك ، أقصد الذين يزوجونه ، حتى صار منتشر ومعروف ، ويقولون أفتى لهم البعض انه زواج بنية الطلاق وأنه جائز ، فما قولكم أحسن الله إليكم ؟

 

الحمد لله والصلاة و السلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد :
 
هذا النكاح الذي في السؤال هو نكاح المتعة بعينه ، وليس هو النكاح بنية الطلاق الذي اختلف فيها العلماء ـ مع أنَّ الصحيح تحريمه كما سنبيِّنه ـ  فإنَّ النكاح بنيّة الطلاق ، هو أن لايكون ثمّة اتفاق ـ يشمل ذلك لو كان اتفاقا غيرَ مصرَّح به لفظاً ولكن يدل عليه العرف وقرائن الحال ـ بين الرجل والمرأة أو وليّها على مدّة ،
 
 وإنما المقصود بنيَّة الطـلاق ، أنـّها نيّة يضمرها الخاطب في نفسه ، بينه وبين ربّه ، ثمّ قد يتغيَّر ما في نفسه .
 
ومن يفتي بأنَّ  ما ورد في السؤال ، هـو النكاح بنية الطلاق ، فهو مخطئ خطأً بيَّنا .
 
وقد تقرَّر عند الفقهاء :  أنَّ المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً ، أو : الشرط العرفي كالشرط اللفظي .
 
فإنْ كان العقد كالمتعارف عليه ضمْنـا ، أنَّه تزويج لمدة الإجازة الصيفيّة ، أو بعضها ، أومدة بقاءه في البـلد ،  مقابل المال ، فهذا ليس بعقد نكاح ، بل هـو سفاح ، وهو البغاء بعينه ، لايعدوه قيد أنملة ، عافانا الله من الفحشاء ، وفاعله ساقط العدالة ، حقُّه أن يعـزَّر ، ويجعل عبرةً ونكالاً.
 
وذلك أنَّ الأنكحة بالنسبة لنيّة الزوج في المدّة ، ثلاثة أنواع :
 
أحدها : النكاح الذي ليس معه نيّة طلاق .
 
والثاني : النكاح الذي يضمر فيه الزوج نية الطلاق ، بعد مدّة من غير علم المرأة ووليها.
 
والثالث : النكاح الذي ينوي فيه الزوج الطلاق ، ونيته تُعـلم بعرف معهود في مثل حاله ، أو قرينة دالَّة ، فهذا ينبغي أن يُسمَّى ( النكاح مع التعارف على الطلاق) ، وليس النكاح بنيّة الطلاق.
 
فالأول هو النكاح الشرعي ، والثاني مختلف فيه ، والثالث محرم ، وهو نكاح المتعة بلاريب .
 
كما قال الإمام محمد بن رشد : ( ولو علمت المرأة بذلك قبل النكاح كانت المتعة بعينها)
 
ونكاح المتعة حرامٌ بالإجماع ، قال الإمام ابن المنذر رحمه الله : ( ولا أعلم اليوم أحداً يحيزها إلاّ بعض الرافضة ، ولامعنى لقول يخالف كتاب اللّه ،  وسنة رسوله‏ ) ،  وقال القاضي عياض رحمه الله : وقع الإجماع من جميع العلماء على تحريمها إلاّ الروافض ).
 
هذا والصحيح في النـوع الثاني ـ أعني النكاح بنيِّة الطلاق ـ  أنَّه محرم أيضا ، وهو مذهب الحنابلة ، والأوزاعي ،
 
قال المرداوي : ( لو نوى بقلبه , فهو كما لو شرطه . على الصحيح من المذهب . نص عليه ، وعليه الأصحاب ).
 
قال في مطالب أولي النهى معددا ما يفسد العقد : ( ونكاح المتعة ،  أو ينويه ، أي ينوي الزوج طلاقها بقلبه ، نقل أبو داود فيها : هوشبيه بالمتعة ).
 
ذلك أنَّ النية لها أثـرٌ عظيم في العقود ، كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله :
 
(تظاهرت أدلة الشرع وقواعده على أنَّ القصود في العقود معتبرة , وأنها تؤثر في صحة العقد ، وفساده ، وفي حلّه ،  وحرمته , بل أبلغ من ذلك, وهي أنها تؤثر في الفعل الذي ليس بعقد تحليلاً ، وتحريماً ، فيصير حلالاً تارة ، وحراماً تارة ، باختلاف النيّة والقصد , كما يصير صحيحاً تارة ،  وفاسداً تارة باختلافها )  إعلام الموقعين 3/88  
 
ولأنَّ النكاح بنيّة الطلاق غشُّ للمرأة ، ولا يرضاه أحدٌ لنفسه ، فكيف يرضاه لمسلم غيره ،  وفي الحديث : ( لايؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه ) متفق عليه ، وفي الحديث : ( من غشَّ فليس منّا ) رواه مسلم
 
ولأنَّ فيـه تدليساً ، يترتّب عليه ضرراً ، وظُلماً ، ذلك أنَّ نيَّة الرجل ترك المرأة مطلقةً ،  بعد قضاء وطره منها ، عيبٌ كبيرٌ في الخاطـب ، لو علمه الأولياء لردُّوه ، لاسيما في هذا العصر الذي تلقى فيه المطلّقة عنـتاً ، وفي هذا من الإضرار ، والظلم ، ما تحرّمه الشريعة أشدّ التحريم.
 
ولهذا فينبغي أن يلحظ الفقيه إختلاف الزمان فيما يلحق المرأة المطلَّقة من ضرر ، بين ما مضى في مذاهب بعض فقهاء الذي أفتوا بجواز النكاح بنية الطـلاق ، حيث لم يكن يلحقها شيءٌ يذكـر ،
 
وبين اليوم ، لاسيما في البلاد التي تبقى فيه المطلقة عالة ، مع ما يؤدي طلاقها إليه في كثير من الأحيـان من الفساد ، والإنحـراف.
 
إضافة إلى الضـرر الذي يلحقها بسبب تعقيدات الحياة المعاصرة ، في إثبات الزواج ، والطلاق ، والأولاد ، في التوثيق ، وغيره ،  إذا كان المطلق مغتربا ، ثم سافر إلى بلده ، وأهمـل أمرها .
 
فهذا غش واضح ، وتدليس ، لايفتي بجوازه في العقود فقيه .
 
وكيف ـ ليت شعري ـ يُفتي من فقه في هذه الشريعة العظيمة ، أدنى فقه ، بأنَّه يجوز للرجل أن يغشَّ أمرأة وأولياءها ، فيظهر لهم أنّه يريدها زوجة ، ويبطـن أنّه يستمتع بها ثمّّّّّّ يطلقها ، في حـال يعـلَّم أنَّه ربما يفسد عليها ما بقي من حياتها بهذا النكاح الفاسد ، بأنْ تبقى مطلَّقة ، منبوذة ، في زمان ملىءٍ بالشرور ، والفتن ، ويوقع عليها هذا الضرر العظيم ، الذي لايرضاه لابنته ، أو أخته ؟!
 
وأيضا فإنَّ هذا يدل على أن رضاها مع تغريره بها ، غير معتبـر ، فكأنَّ العقد في هذه الحالة قـد فقـد شرط رضا المرأة بالنكاح.
 
وما يدل على بطلان الفتوى بإباحة النكاح بنية الطلاق ، أنها هي المدخل ، والذريعة ، لإنتشـار (النكاح مع التعارف على الطلاق ) ، الذي تحوَّل إلى سوق للبغاء في بعض البلاد ، وانتشر بسببه من الفساد ، ما يندي له الجبين ، ويبرأ منه الدين .
 
وتأمّل ما في فتوى الشيخ الفقيه محمد العثيمين رحمه الله ، من البصيرة في مقاصد الشريعة عندما قال في شرح منظومة القواعد : "هذه المسألة لا تدخلُ تحت الخلاف الذي فرضه أهلُ العلم قطعًا ، لأنَّ المسألة التي فرضها أهل العلم في الغريب ، يتزوج بنية الطلاق إذا فارق البلد، والغريب لم يسافر لأجل أن يتزوَّج ، إنَّما سافر لحاجة : طلب علم أو مال ، أو غير ذلك ، واحتاج إلى النِّكاح ، فتزوَّج ، أمَّا هؤلاء ، فقد قصدوا من الأصل أن يذهبوا إلى البلد ليتزوَّجوا بنية الطلاق " ا.هـ ص289
 
ذلك أن إذا أُبيح السـفر بقصد الزواج بنية الطلاق ، فسوف يفضي ذلك حتما إلى إنتشار ( الزواج مع التعارف على الطلاق ) ، حتّى تتحوّل بعض البلاد إلى سياحة دعارة مبطنة ، بإسم الدين الداعي إلى الفضيلة ، وفي ذلك من الجناية على الإسلام ، والصدّ عنه ، وتشويه صورته ما فيه .
 
وهذا مما يدل على أن النكاح بنية الطلاق من الباطل أيضا ، فلو كان حقَّا لما لزم منه الباطـل ، وأي باطل ؟! الزنا الذي هـو أعظم جريمة بعد الشرك ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحـقِّ .
 
والله أعلم

الكاتب: زائر
التاريخ: 19/06/2009