فضيلة الشيخ : تناقشت مع شاب في مسألة فقال لي إن الحق في مسائل الخلاف مع المجاهدين ، لهذه الآية ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) ، فقلت له لكن هذه المسألة واضحة والدليل فيها واضح ، ثم المجاهدون يختلفون ، والواجب الرجوع إلى العلماء؟ نرجو الإفادة والتفصيل رعاك الله

 

 
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه وبعد :

ربمّـا يقع في هذه القضية لبس ، سببه سوء فهم ، مع قلّة علم ، ولهذا ينبغي أن ننقل كلام أهل العلم في تفسير هذه الآية أوّلا ، ثمّ نبيّن المقصـود .
 
قال ابن كثير رحمه الله : " ثم قال تعالى : ( والذين جاهدوا فينا ) يعني الرسول صلى الله عليه وسلم ،  وأصحابه،  وأتباعه إلى يوم الدين ، ( لنهدينهم سبلنا ) أي لنبصرنهّم سبلنا أي طرقنا في الدنيا ، والآخرة.
 
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن أبي الحواري ،  أخبرنا عباس الهمداني أبو أحمد من أهل عكا ، في قول الله تعالى : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ) قال : الذين يعملون بما يعلمون ، يهديهم الله لما لا يعلمون ، قال أحمد بن أبي الحواري : فحدثت به أبا سليمان الداراني فأعجب"
 
وقال الإمام الشوكاني في فتح القدير : "ثم لما ذكر حال المشركين الجاحدين للتوحيد الكافرين بنعم الله ، أردفه بحال عباده الصالحين ،  فقال : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) أي جاهدوا في شأن الله لطلب مرضاته،  ورجاء ما عنده من الخير،  لنهدينهم سبلنا : أي الطريق الموصل إلينا ، قال ابن عطية : هي مكية نزلت قبل فرض الجهاد العرفي ،  وإنما هو جهاد عام في دين الله  ، وطلب مرضاته ، وقيل : الآية هذه نزلت في العبّاد ، وقال إبراهيم بن أدهم : هي في الذين يعملون بما يعلمون ( وإن الله لمع المحسنين ) ،  بالنصر والعون ، ومن كان معه لم يخذل "
 
وقال الإمام القرطبي : "قوله تعالى : ( والذين جاهدوا فينا ) أي جاهدوا الكفار فينا أي في طلب مرضاتنا ، وقال السدي ، وغيره : إن هذه الآية نزلت قبل فرض القتال،  وقال ابن عطية : فهي قبل الجهاد العرفي ، وإنما هو جهاد عام في دين الله ، وطلب مرضاته"
 
 قال الحسن بن أبي الحسن : الآية في العبّاد ، وقال ابن عباس و إبراهيم بن أدهم : هي في الذي يعمون لها يعلمون ، وقد قال صلى الله عليه وسلم ( من عمل بما علم علمه الله ما لم يعلم )  ونزع بعض العلماء إلى قوله : (واتقوا الله ويعلمكم الله ) ،  وقال عمر بن عبد العزيز : إنما قصر بنا عن علم ما جهلنا ، تقصيرنا في العمل بما علمنا،  ولو عملنا ببعض ما علمنا ،لأورثنا علما لا تقوم به أبداننا ، قال الله تعالى ( واتقوا الله ويعلمكم الله ) "
 
 وقال أبو سليمان الداراني ليس الجهاد في الآية قتال الكافر فقط ، بل هو نصر الدين ، والرد على المبطلين ، وقمع الظالمين ،  وعظمه الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكرة ،  ومنه مجاهدة النفوس في طاعة الله ، وهو الجهاد الأكبر .
 
وقال سفيان بن عيينة لابن المبارك : إذا رأيت الناس قد اختلفوا فعليك بالمجاهدين وأهل الثغور فإن الله تعالى يقول : ( لنهدينهم ).
 
وقال الضحاك : مثل السنة في الدنيا ،  كمثل الجنة في العقبى ، ومن دخل الجنة في العقبى سلم ، وكذلك من لزم السنة في الدنيا سلم
 
 وقال عبد الله بن عباس : والذين جاهدوا في طاعتنا ، لنهدينهم سبل ثوابنا ، وهذا يتناول بعموم الطاعة جميع الأقوال .
 
ونحوه قول عبد الله بن الزبير قال : تقول الحكمة من طلبني فلم يجدني ، فليطلبني في موضعين : أن يعمل بأحسن ما يعلمه ، ويجتنب أسوأ ما يعلمه .
 
وقال الحسن بن الفضل فيه تقديم وتأخير ،  أي الذين هديناهم هم الذين جاهدوا فينا ( لنهدينهم سبلنا ) أي طريق الجنة ،  قاله السدي النقاش : يوفقهم لدين الحق ،  وقال يوسف بن أسباط : المعنى لنخلصن نياتهم ، وصدقاتهم ، وصلواتهم ،  وصيامـهم "
 
وقال في زاد المسير : (والذين جاهدوا فينا ، أي قاتلوا أعداءنا لأجلنا،  لنهدينّهم سبلنا،  أي لنوفقنّهم لإصابة الطريق المستقيمة ، وقيل لنزيدنهم هداية ، وإن الله لمع المحسنين بالنصرة ، والعون ، قال ابن عباس : يريد بالمحسنين الموحدين ، وقال غيره يريد المجاهدين ،  وقال ابن المبارك من اعتاصت عليه مسألة ،  فليسأل أهل الثغور عنها ، لقوله لنهدينهم سبلنا) .
 
وقال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله : " ولهذا كان الجهاد موجبا للهداية التى هى محيطة بأبواب العلم ، كما دل عليه قوله تعالى :  (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) فجعل لمن جاهد فيه ، هداية جميع سبله تعالى ،  ولهذا قال الإمامان عبد الله بن المبارك ، وأحمد بن حنبل ، وغيرهما ،  إذا إختلف الناس في شيء ،  فانظروا ماذا عليه أهل الثغر ، فإنَّ الحق معهم ، لأن الله يقول : (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنــا) "أ.هـ
 
والصحيح في معنى الآية أنها عامّة ، فكل من يجاهد بالعمل ، يرزق التوفيق للهدى .
 
ثـم هذا الكلام من الإمامين ، ابن المبارك ، وأحمـد ،  يتنزل على واقـع أنّ العلماء كان بعضهم في ثغور الجهاد ، وبعضهم في المدائن الأخرى.
 
ثم إن المسائل قسمان : 
 
 مسائل متفق عليها ، فلا يجوز لأحـد مخالفتها ، ومن خالفها من أهل الجهاد ،  فهو مخطئ حتى لو كان من أهل العلم .
 
ومسائل تنازع فيها علمـاء جمعوا شروط الفتيا ، وهـم في ثغور الجهاد ، مع علماء في خارجها ، فالذين في الثغور أقرب إلى الصواب ، وذلك على سبيل الترجيـح عند الإمامين ابن المبارك ، وأحمد رحمهما الله .
 
وينبغي التنبـّه إلى أمـور مهمـّة : 
 
 أولا : هذه المقارنة ليست  بين طلبة علم في الجهاد وبين علماء ، فضلا عن جهّال في ساحات الجهاد ،  يفرضون أنفسهم مجتهدين ، وبين علماء.
 
ثانيا : كما أنها ليست في المسائل التي اتفق العلماء فيها ، ويخطىء فيها مجاهدون ليسوا من أهل العلم ، ويظنون أنّ الحق معهم ، لمجرد أنهـم يحملون السلاح.
 
ثالثا : أن ما ذكره الإمام أحمد ، وابن المبارك ، ليس نصا مرفوعا ، وإنما اجتهاد في فهم الآية ، يدل على أن هذا من المرجحات في مسائل النزاع عندهما فحسـب.
 
ومعلوم أنـه حتى إجماع علماء في ثغر من الثغور ، لم يقـل أحـد من العلماء أنـه مصادر الأحكام.
 
فينبغي أن يفهم كلام الأئمة فهما صحيحا.
  
مع أنّ اليوم عامة مسائل الجهاد لاخلاف فيها أصـلا ، إنما هو جهاد دفع ، عامـة مسائله في دائرة ما اتفق عليه ، وثمة مسائل النزاع فيها قديم بين الفقهاء.
 
وإنما يحدث بعض الجهال أمورا متفق على مخالفتها للصواب ، ويظنون أن الهدى معهم لأنهم في حال الجهاد فحسـب ، وقد يكون فيهم ما في غيرهم من الأمّة ، من الجهل ، والتقصيـر ، والتعصّب ، ولايخفى أنـه لـم يزل في طائفة الجهاد ،  ما في الأمة من النقص ، مما تقتضيه طبيعة البشـر ، ولايسلم منه أحـد ، غير أنَّ المجاهدين في الجمـلة خيرة أهل الإسلام ، وأفضلهـم.
 
والله أعلم
 

الكاتب: سائل
التاريخ: 10/03/2008