هل صحيح أن إعمال قاعدة سد الذرائع مقصور على العقيدة ؟ |
|
السؤال:
السلام عليكم قال بعضهم : "ويقول بعض العلماء: إن إعمال قاعدة (سد الذرائع) يتعين في جانب العقيدة دون سائر الأحكام الفرعية،" وسؤالي هو : هل صحيح يا فضيلة الشيخ أن قاعدة سد الذرائع لا يعمل بها إلا في جانب العقائد ؟ أرجوا البيان من فضيلتكم، و جزاكم الله خير الجزاء.
***********************
جواب الشيخ:
هذا القول غير صحيح أعني قصــر إعمال قاعدة سد الذرائع على باب العقيدة ، وهذا تفصيل هذه الجملة :
فقـد حكى شيخ الإسلام أن السلف ينهون عن كثير من المعاملات سدا للذرائع : ـ
كما قال : ـ
فنهى أن يبيع ويقرض ليحابيه في البيع ؛ لأجل القرض . وثبت عنه في الصحيح أنه قال : { إنما الأعمال بالنيات } فهذان المتعاملان إن كان قصدهما أخذ دراهم بدراهم إلى أجل فبأي طريق توصل إلى ذلك كان حراما ؛ لأن المقصود حرام لا يحل قصده ؛ بل قد نهى السلف عن كثير من ذلك سدا للذرائع : لئلا يفضي إلى هذا المقصود .
--------
وقال القرطبي في ذكر أدلة سد الذرائع في تفسيره عند قوله تعالى ( لاتقولوا راعنا وقولوا انظرنا ) في سورة البقــــرة : ـ
وروى مسلم عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الحلال بيّن والحرام بين وبينهما أمور متشابهات فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه) الحديث،
---------------
فمنع من الإقدام على الشبهات مخافة الوقوع في المحرمات، وذلك سدا للذريعة.
----------------
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به البأس).ـ
-----------------
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن من الكبائر شتم الرجل والديه)
قالوا: يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: (نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه).
---------------
فجعل التعرض لسب الآباء كسب الآباء.
-------------
وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه منكم حتى ترجعوا إلى دينكم).
-----------------
وقال أبو عبيد الهروي: العينة هو أن يبيع الرجل من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى، ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعها به. قال: فإن اشترى بحضرة طالب العينة سلعة من آخر بثمن معلوم وقبضها ثم باعها من طالب العينة بثمن أكثر مما اشتراه إلى أجل مسمى ثم باعها المشتري من البائع الأول بالنقد بأقل من الثمن فهذه أيضا عينة، وهي أهون من الأولى،وسميت عينة لحصول النقد لصاحب العينة، وذلك لأن العين هو المال الحاضر والمشتري إنما يشتريها ليبيعها بعين حاضر يصل إليه من فوره.
---------------
وروى ابن وهب عن مالك أن أم ولد لزيد بن الأرقم ذكرت لعائشة رضي الله عنها أنها باعت من زيد عبدا بثمانمائة إلى العطاء ثم ابتاعته منه بستمائة نقدا، فقالت عائشة: بئس ما شريت، وبئس ما اشتريت! أبلغي زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إن لم يتب.
--------------
ومثل هذا لا يقال بالرأي، لأن إبطال الأعمال لا يتوصل إلى معرفتها إلا بالوحي، فثبت أنه مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعوا الربا والريبة. ونهى ابن عباس رضي الله عنهما عن دراهم بدراهم بينهما حريزة".أ.هـ
وهذه الأدلة التي استدل بها كلها عامة تشمل العقائد وغيرها كما هو ظاهـــــــر
----------------
وقال الحافظ ابن القيم في إغاثة اللهفان : "وإذا تدبرت الشريعة وجدتها قد أتت بسد الذرائع إلى المحرمات؛ وذلك عكس باب الحيل الموصلة إليها، فالحيل وسائل وأبواب إلى المحرمات، وسد الذرائع عكس ذلك، فبين البابين أعظم تناقض، والشارع حرم الذرائع، وإن لم يقصد بها المحرم؛ لإفضائها إليه، فكيف إذا قصد بها المحرم نفسه".
-------------
ثم ذكر أمثلة كثيرة منها ما يأتي:ـ
نهي الله تعالى عن سب آلهة المشركين؛ لكونه ذريعة إلى أن يسبوا الله سبحانه وتعالى عدواً وكفراً على وجه المقابلة. كما في قوله تعالى: ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ) ـ
ونهى الله سبحانه النساء أن: يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن ) ـ
---------
فلما كان الضرب بالرجل ذريعة إلى ظهور صوت الخلخال الذي هو ذريعة إلى ميل الرجال إليهن نهاهن عنه.
-----------
وأمر الله سبحانه الرجال والنساء بغض أبصارهم، لما كان النظر ذريعة إلى الميل والمحبة التي هي ذريعة إلى مواقعه المحظور.
------------------
ونهى عن التشبه بأهل الكتاب وغيرهم من الكفار في مواضع كثيرة؛ لأن المشابهة الظاهرة ذريعة إلى الموافقة الباطنة، فإنه إذا أشبهَ الهديُ الهديَ، أشبه القلبُ القلبَ، وقد قال : "من تشبه بقوم فهو منهم"ـ
-------------
وقال رحمه الله: "وبالجملة فالمحرمات قسمان: مفاسد، وذرائع موصلة إليها مطلوبة الإعدام (أي: الإبطال).ـ
----------------
والقربات نوعان: مصالح للعباد، وذرائع موصلة إليها، ففتح باب الذرائع في النوع الأول كسد باب الذرائع في النوع الثاني، وكلاهما مناقض لما جاءت به الشريعة...
--------------
وإذا كان الشيء الذي قد يكون ذريعة إلى الفعل المحرم، إما بأن يقصد به ذلك المحرم، أو بأن لا يقصد به، وإنما يقصد به المباح نفسه، لكن قد يكون ذريعة إلى المحرم، يحرمه الشارع بحسب الإمكان ما لم يعارض ذلك مصلحة راجحة تقضي حلَّهُ، فالتذرع إلى المحرمات بالاحتيال عليها أولى أن يكون حراماً، وأولى بالإبطال والإهدار، إذا عرف قصد فاعله، وأولى أن لا يعان فاعله عليه، وأن يعامل بنقيض قصده، وأن يبطل عليه كيده ومكره. وهذا بحمدالله تعالى بيِّنٌ لمن له فِقهٌ وفهم في الشرع ومقاصده) ـ
---------------
وهذه كما ترى أمثلة شاملة للعقائد وغيرها .
------
وبالجملة فقصــر القاعدة على العقائد غير صحيح ، ثم إنـّـا قد بينا في فتوى سابقة أن خطــر الأنحراف في الاعمال والسلوك ، قد يكون أشــد من خطر الإنحراف في العقيدة ، لان العقيدة يقصد بها ما يشتمل عليه القلب من تصورات ، وقد يكون الخطأ فيها أهون بكثير من الخطأ في العمليات ، كترك الصلاة ، أو ترك مباني الإسلام أو الوقوع في الموبقات ، في مقابل الخطأ في فهم حديث من أشراط الساعة مثلا ، او كون الحوض قبل الصراط أم بعده ، ونحو ذلك من مسائل التصورات العقائدية التي تنازع فيها العلماء مثلا ، وحينئذ فلو قلنا إن أصل سد الذريعة مقصور على باب العقيدة مطلقا ، فسيؤدي هذا إلى أن تكون الشريعة الكاملة أحرص على سد الذريعة فيما يكون الخطأ فيه أخف ، منه فيما يكون الخطر أشــــد ، وهذا تناقض بين .
------
وبهذا يتبين أن من أطلق القول بأن سد الذريعة مقصور على باب العقائد قد أخطأ خطأ بينا واضحا والله أعلم .
الكاتب: سائل
التاريخ: 13/12/2006