هل لله تعالى مكان ؟ |
|
السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله
أسأل الله أن يحفظكم ويبارك في أعمالكم
سؤالي : هل يجوز أن يقال إن لله مكانا
علما بأنني أعلم ولله الحمد مذهب أهل السنة كما قال ابن تيمية: ( وَقَدْ قَالَ مالك بن أنس: إن الله فَوْقَ السماء، وعلمه فِي كلّ مكان
فمن اعتقد أنّ الله فِي جوف السّمَاء محصور محاط به، وأنّه مفتقر إِلَى العرش، أَوْ غير العرش – من المخلوقات- أَوْ أَنْ استواءه عَلَى عرشه كاستواء المخلوق عَلَى كرسيّه: فَهُوَ ضال مبتدع جاهل)
وقد قرأت للشيخ ابن عثيمين في شرح الواسطية العبارة التالية - في شرح حديث الجارية - (( قوله : أين الله؟ (أين :يستفهم بها عن المكان .
ثم قال : واستفهام النبي صلى الله عليه وسلم ب( أين ) يدل على أن لله مكانا.))
*********************
جواب الشيخ:
رجعت إلى كلام العلامة المحقق الشيخ العثيمين رحمه الله ، فوجدت هذه العبارة : ( وأما التقرير ، فإنه في حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه ، أنه أتى بجارية يريد أن يعتقها ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم أين الله ؟ قالت : في السماء ، قال من أنا ، قالت رسول الله ، قال اعتقها ، فإنها مؤمنة ) رواه مسلم .
فهذه جارية لم تتعلم ، والغالب على الجواري الجهل ، لا سيما وهي أمة غير حرة ، لاتملك نفسها ، تعلم أن ربها في السماء ، وضلال بني آدم ينكرون أن الله في السماء ، ويقولون ، إما إنه لافوق العالم ولا تحته ، ولايمين ، ولاشمال ، أو أنه في كل مكان!!) أ.هـ شرح الواسطية 1/390
فلعلك نقلت من موضع أخطا في حكاية قول الشيخ رحمه الله ، ومعلوم عنه دقة العبارات ، وأن مذهبه ـ كما هو مذهب السلف الصالح ـ أن هذه الالفاظ المجملة لاتثبت ولا تنفى بغير نص ، لان هذا الباب توقيفي ، لايجوز إثبات شيء لله تعالى او نفي شيء عنه إلا بدليل ، وأما الالفاظ المجملة المحتملة للصواب والخطأ ـ مثل لفظ المكان والجهةوالحيز ـ فيستفصل عن المعنى الذي عناه المتكلم ويحكم بالتفصيل وفق ذلك ، هذا هو التحقيق في هذه المسألة ، وإن كان قد ورد إطلاق المكان عن بعض السلف والعلماء ، مع أنه محمول على إراتهم المعنى الصحيح بلا ريب.
ولزيادة إيضاح هذه المسألة ، ودفعا لما قد يحصل من لبس ، أنقل ما قاله شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله : في درء تعارض النقل والعقل 15ـ 21 الجزء السابع :
( وهؤلاء يتكلمون بلفظ الجهة والحيز والمكان ويعنون بها تارة أمرا معدوما وتارة أمرا موجودا .
ولهذا كان أهل الإثبات من أهل الحديث والسلفية من جميع الطوائف : منهم من يطلق لفظ الجهة، ومنهم من لا يطلقه ، وهما قولان لأصحاب أحمد والشافعي ومالك وأبي حنيفة وغيرهم من أهل الحديث والرأي .
وكذلك لفظ ( المكان ) منهم من يطلقه ، ومنهم من يمنع منه.
وأما لفظ المتحيز فمنهم من ينفيه، وأكثرهم لا يطلقه ولا ينفيه.
لأن هذه ألفاظ مجملة، تحتمل حقا وباطلا ، وإذا كان كذلك ، فيقال قول القائل : إن الله في جهة ، أو حيز ، أو مكان ، إن أراد به شيئا موجودا غير الله فذلك من جملة مخلوقاته ، ومصنوعاته ، فإذا قالوا : إن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه، امتنع أن يكون محصورا ، أو محاطا بشيء موجود غيره ، سواء سمى مكانا ، أو جهة ، أو حيزا ، أو غير ذلك.
ويمتنع أيضا أن يكون محتاجا إلى شيء من مخلوقاته ، لا عرش ولا غيره ، بل هو بقدرته الحامل للعرش ، ولحملته .
فإن البائن عن المخلوقات العالي عليها يمتنع أن يكون في جوف شيء منها ، وإذا قيل إنه في السماء كان المعنى إنه في العلو ، وهو مع ذلك فوق كل شيء ، ليس في جوف السماوات ، فإن السماء هو العلو، وكل ما علا فهو سماء ، يقال سما يسمو سموا ، أي علا يعلو علوا ، وهذا اللفظ يعم كل ما يعلو لم يخص بعض أنواعه بسبب القرينة .
فإذا قيل فليمدد بسبب إلى السماء ، فقد يراد به السقف ، وإذا قيل نزل المطر من السماء ، كان نزوله من السحاب .
وإذا قيل العرش في السماء، فالمراد به ما فوق الأفلاك ، وإذا قيل الله في السماء ، فالمراد بالسماء ما فوق المخلوقات كلها، أو يراد أنه فوق السماء ، وعليها فأما أن يكون في جوف السماوات فليس هذا قول أهل الإثبات ، أهل العلم والسنة .
ومن قال بذلك فهو جاهل ن كمن يقول : إن الله ينزل ويبقى العرش فوقه ،أو يقول إنه يحصره شيء من مخلوقاته ، فهؤلاء ضلال كما أن أهل النفي ضلال .
وإن أراد بمسمى الجهة ، والحيز والمكان ، أمرا معدوما ، فالمعدوم ليس شيئا، فإذا سمى المسمى ما فوق المخلوقات كلها حيزا ، وجهة، ومكانا، كان المعنى أن الله وحده هناك ليس هناك غيره من الموجودات ، لا جهة ، ولا حيز ، ولا مكان بل هو فوق كل موجود من الأحياز، والجهات ، والأمكنة، وغيرها سبحانه وتعالى .
الوجه الثاني : أن يقال لو عارضكم معارض وقال :الجهة وإن كانت موجودة فهي مخلوقة له مصنوعة وهي مفتقرة إليه، وهو مستغن عنها، فإن العرش مثلا إذا سمي جهة ، ومكانا، وحيزا، فالله تعالى هو ربه وخالقه، والعرش مفتقر إلى الله ، افتقار المخلوق إلى خالقه، والله غني عنه من كل وجه .
فليس في كونه فوق العرش وفوق ما يقال له جهة ومكان وحيز وإن كان موجودا ، إثبات شرف لذلك المخلوق أعظم من شرف الله تعالى.
وهذا قد يجيب به من يثبت الخلاء ويجعله مبدعا لله تعالى .
الوجه الثالث أنه إذا كان عاليا على ما يسمى جهة، ومكانا، كان هو أعلى منه فأي شرف ، وعلو كان لذلك الموجود بالذات ، أو بالعرض ، فعلو الله أكمل منه .
الوجه الرابع أن يقال : لا نسلم أن العلو الحاصل بسبب الجهة هو لها بالذات ، ولغيرها بالعرض ، إذ الجهة تابعة لغيرها سواء كانت موجودة ، أو معدومة، وعلوها تبع لعلو العالي بها، فكيف يكون العلو للتابع بالذات وللمتبوع بالعرض .
وقولنا عال بالجهة ، مثل قولنا عال بالعلو ، وعالم بالعلم ، وقادر بالقدرة ، أو عال علو المكانة ، أو عال بالقهر فليس ، في ذلك ما يوجب أن تكون المكانة ، والقهر ، والعلو والعلم ، أكمل من القاهر العالم ، العالي ذي المكانة العالية.
ومهما قدر أنه يسمى جهة فإما أن يكون عدما فلا شرف له أصلا، وإما أن يقدر موجودا ، إما صفة لله ، وإما مخلوقا لله ، وعلى التقديرين ، فالموصوف أكمل من الصفة ، والخالق أكمل من المخلوق .
فكيف تكون الصفات والمخلوقات أكمل من الموصوف الخالق سبحانه وتعالى .
الوجه الخامس أن الجهة قد نعني بها نسبة، وإضافة كاليمين ، واليسار ، والأمام، والوراء، فالعلو إذا سمي جهة بهذا الاعتبار ، كان العالي بالجهة معناه أن بينه وبين ما هو عال عليه نسبة، وإضافة ، أوجبت أن يكون هذا فوق هذا، فهل يقال إن هذه النسبة والإضافة التي بها وصف العالي ، بأنه عال أكمل من ذاته العالية الموصوفة بهذا العلو والنسبة.
الوجه السادس : أن يقال هذا الذي قاله إنما يتوجه في المخلوق إذا علا على سقف ، أو منبر ، أو عرش ، أو كرسي ، أو نحو ذلك ، فإن ذلك المكان كان عاليا بنفسه، وهذا صار عاليا لما صار فوقه بسبب علو ذلك.
فالعلو لذلك السقف والسرير والمنبر بالذات ، ولهذا الذي صعد عليه بالعرض ، فكلامهم يتوجه في مثل هذا.
وهذا في حق الله وهم ، وخيال فاسد ، وتمثيل لله بخلقه ، وتشبيه له بهم في صفات النقص، التي يتعالى عنها، وهؤلاء النفاة كثيرا ما يتكلمون بالأوهام ، والخيالات الفاسدة ، ويصفون الله بالنقائص ولآفات ، ويمثلونه بالمخلوقات ، بل بالناقصات ، بل بالمعدومات ، بل بالممتنعات.
فكل ما يضيفونه إلى أهل الإثبات ، الذين يصفونه بصفات الكمال ، وينزهونه عن النقائص ، والعيوب ، وأن يكون له في شيء من صفاته كفو ، أو سمي ، فما يضيفونه إلى هؤلاء من زعمهم أنهم يحكمون بموجب الوهم، والخيال الفاسد ، أو أنهم يصفون الله بالنقائص ، والعيوب ، أو أنهم يشبهونه بالمخلوقات ، هو بهم أخلق وهو بهم أعلق ، وهم به أحق فإنك لا تجد أحدا سلب الله ما وصف به ، نفسه من صفات الكمال إلا وقوله ، يتضمن لوصفه بما يستلزم ذلك ، من النقائص، والعيوب ، ولمثيله بالمخلوقات ، وتجده قد توهم وتخيل أوهاما ، وخيالات فاسدة ، غير مطابقة ، بنى عليها قوله من جنس هذا الوهم والخيال ، وأنهم يتوهمون ويتخيلون أنه إذا كان فوق العرش محتاجا إلى العرش كما أن الملك إذا كان فوق كرسيه كان محتاجا إلى كرسيه.
وهذا عين التشبيه الباطل ، والقياس الفاسد ، ووصف الله بالعجز ، والفقر إلى الخلق ، وتوهم أن استواءه مثل استواء المخلوق ، أولا يعلمون أن الله يحب أن نثبت له صفات الكمال ن وننفي عنه مماثلة المخلوقات ، وأنه ليس كمثله شيء ، لا في ذاته ، ولا في صفاته، ولا أفعاله ، فلا بد من تنزيهه عن النقائص ، والآفات ، ومماثلة شيء من المخلوقات.
وذلك يستلزم إثبات صفات الكمال ، والتمام التي ليس فيها كفو لذي الجلال ،والإكرام .
وبيان ذلك هنا أن الله مستغن عن كل ما سواه ، وهو خالق كل
مخلوق ، ولم يصر عاليا على الخلق بشيء من المخلوقات ن بل هو سبحانه خلق المخلوقات ، وهو بنفسه عال عليها، لا يفتقر في علوه عليها إلى شيء منها، كما يفتقر المخلوق إلى ما يعلو عليه من المخلوقات وهو سبحانه حامل بقدرته للعرش ولحملة العرش .
وفي الأثر أن الله لما خلق العرش أمر الملائكة بحمله ، قالوا ربنا كيف نحمل عرشك وعليه عظمتك ، فقال قولوا لا حول ولا قوة إلا بالله .
فإنما أطاقوا حمل العرش بقوته تعالى ، والله إذا جعل في مخلوق قوة أطاق المخلوق حمل ما شاء أن يحمله من عظمته، وغيرها فهو بقوته، وقدرته الحامل ، للحامل والمحمول ، فكيف يكون مفتقرا إلى شيء ، وأيضافالمحمول من العباد بشيء عال لو سقط ذلك العالي ، سقط هو والله أغنى وأجل وأعظم من أن يوصف بشيء من ذلك .
وأيضا فهو سبحانه خلق ذلك ، المكان العالي ، والجهة العالية ، والحيز العالي ، إذا قدر شيئا موجودا، كما لو جعل ذلك اسما للعرش ، وجعل العرش هو المكان العالي ، كما في شعر حسان :
% تعالى علوا فوق عرش إلهنا % وكان مكان الله أعلى وأعظما %
فالمقصود أنه خلق المكان وعلاه وبقوته صار عاليا، والشرف الذي حصل لذلك المكان العالي منه ، ومن فعله ، وقدرته، ومشيئته فإذا كان هو عاليا علا ذلك ، وهو الخالق له وذلك مفتقر إليه من كل وجه.
وهو مستغن عنه من كل وجه، فكيف يكون قد استفاد العلو منه ، ويكون ذلك المكان أشرف منه
، وإنما صار له الشرف به، والله مستحق للعلو والشرف بنفسه لا بسبب سواه .
فهل هذا وأمثاله إلا من الخيالات والأوهام الباطلة، التي تعارض بها فطرة الله التي فطر الناس عليها، والعلوم الضرورية والقصود الضرورية ، والعلوم البرهانية القياسية ، والكتب الإلهية، والسنن النبوية ، وإجماع أهل العلم ، والإيمان من سائر البرية ) أ.هـ
الكاتب: سائل
التاريخ: 13/12/2006