التعددية في الإسلام؟

 

السؤال:

شيخنا الفاضل السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...
شيخ ما هو مفهوم التعددية ؟ وهل جاء الاسلام او تبنى هذا المفهوم؟ وهل قيدها بقيود ام جعلها مطلقة؟ وما هي اهم المحاذير المترتبة على هذا المفهوم من المنظور الاسلامي؟ افيدونا افادكم الله..
,وما ردك على من يدعو إلى التعددية الحزبية في واقع يكون فيه أحزاب علمانية ومرتدة ، وضالة ، ولايمكن تقييدها بالإسلام ، لان الدستور يسمح لها بحرية الفكر وهو لايقيد الفكر والاحكام بالشريعة أصلا ، بل يجعلهاأحد المصادر فقط ، ويحتجون بحجة أن عليا رضي الله عنه أقر الخوارج قبل أن يقاتلوا ، وبحجة أن الفرق الضالة لم تزل في عصور الإسلام ، وبحجة أن هذه الأحزاب واقع موجود فلماذا لاندعو إلى تنظيمه وتقنينه ؟

*******************



جواب الشيخ:

عليكم السلام ورحمة الله وبركاته

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد :

الأصل الجامع لهذا الدين ، وكل دين أرسل الله به المرسلين والنبيين ، أن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، أن يُعلوا أحكام هذا الدين ، وهو كلمة الحق ، وأن ينصروه .

وأن يقيموا العدل ، وينصبوه ، وأن يمنعوا الباطل من العلوّ والظهور ، وكذا الظلم والفجور .

وأن معيار العلم بالحق والباطل ، إنما هو الوحي ، هو الحق وماذا بعد الحق إلا الضلال ، قال سبحانه " فاسْتَقْمْ كَمَا أُمِرَتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا "

وذلك أن الله تعالى هو الحق ، وهو ربّ الناس ، ملك الناس ، إله الناس ، له الأمر كلّه ، كما له الملك و الخلق كلّه ، وقد أقام هذه السموات والأرض على الحق والعدل ، وأنزل به الوحي ، حاكما بين الناس ، وأمر المرسلين والمؤمنين أن يقوموا به في الأرض ، ويجاهدوا في سبيل إقامته ، بالعلم واللسان ، وبالقوة والسنان .

قال تعالى : (، إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ) .

وقال تعالى (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ ) .

وقال تعال : ( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ) .

فأمر الناس أن يقيموا دين الله وأن يجتمعوا عليه ، ولا يتفرقوا .

والقرآن مليء بالأمر بالاجتماع على الحق ومدحه ، وذم الافتراق عنه والتفرق فيه ، والأمر بجهاد الباطل وأهله ، وقد سماهم أهل الشقاق ، وأهل النفاق ، وأهل الكفر ، أو الفسق والفجور ، وجمع لهم أوصاف الذم وأسماءه .

هذا هو الأصل العظيم الجامع ، المعلوم من الدين بالضرورة ، من دفعه كفر وارتد ، يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه بإتفاق العلماء .

وعلى هذا الأصل أقيمت شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الإسلام ، بل جعل النظام السياسي كله قائما على هذا الأصل ، فمقصوده إظهار الحق الذي تحمله الأمّة بالوحي ، إظهاره أي جعله ظاهرا بالقوة والعلوّ ، بين المؤمنين ، وعلى الأرض كلها بجهاد الطلب .


قال شيخ الإسلام :

" وإذا كان جماع الدين وجميع الولايات هو أمر ونهي ؛ فالأمر الذي بعث الله به رسوله هو الأمر بالمعروف والنهي الذي بعثه به هو النهي عن المنكر وهذا نعت النبي والمؤمنين ؛ كما قال تعالى : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } .

وهذا واجب على كل مسلم قادر وهو فرض على الكفاية ويصير فرض عين على القادر الذي لم يقم به غيره والقدرة هو السلطان والولاية فذوو السلطان أقدر من غيرهم ؛ وعليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم .

فإن مناط الوجوب هو القدرة ؛ فيجب على كل إنسان بحسب قدرته قال تعالـــى : { فاتقوا الله ما استطعتم } .

وجميع الولايات الإسلامية إنما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سواء في ذلك ولاية الحرب الكبرى : مثل نيابة السلطنة والصغرى مثل ولاية الشرطة : وولاية الحكم ؛ أو ولاية المال وهي ولاية الدواوين المالية ؛ وولاية الحسبة .

لكن من المتولين من يكون بمنزلة الشاهد المؤتمن ؛ والمطلوب منه الصدق ؛ مثل الشهود عند الحاكم ؛ ومثل صاحب الديوان الذي وظيفته أن يكتب المستخرج والمصروف ؛ والنقيب والعريف الذي وظيفته إخبار ذي الأمر بالأحوال .

ومنهم من يكون بمنزلة الأمين المطاع ؛ والمطلوب منه العدل مثل الأمير والحاكم والمحتسب وبالصدق في كل الأخبار والعدل في الإنشاء من الأقوال والأعمال : تصلح جميع الأحوال وهما قرينان كما قال تعالى : { وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا } . وقال النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الظلمة : " { من صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ؛ ولا يرد علي الحوض ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه : وسيرد على الحوض } " .

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " { عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا } " .

ولهذا قــال سبحانه وتعالى : { هل أنبئكم على من تنزل الشياطين } { تنزل على كل أفاك أثيم } وقال : " { لنسفعن بالناصية } { ناصية كاذبة خاطئة } . مجموع الفتاوى 28/65

وكل هذا قد اتفقت عليه المذاهب الإسلامية من أهل السنة والجماعة .

*** غير أن هذا لايعني أنه ليس في الإسلام مساحة لتعدد الآراء ، والتسامح في الخلاف ، مادام ذلك لا يكون في دائرة المحكمات ، والثوابت .

فالتعدّدية إن أريد بها هذا فهي من الحقّ نفسه .

ولهذا لم يكن عند أحد من العلماء تعارض بين ما أمر الله به من إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المكر ، وبين القاعدة المشهورة : أنه لا إنكار في المسائل الاجتهادية ، لان الله تعالى شاء بحكمته أن يكون فيما أنزل محكمات هنّ أمّ الكتاب ، يجتمع عليها أهل الحق ولا يتفرقون ، ومتشابهات يجري وقد يسوغ فيها اختلاف النظر والاجتهاد ، ولهذا صح في الحديث : ( إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإن أخطأ فله اجر ) .

ولهذا ذكر من ذكر من العلماء أنه لا يجوز للحاكم أن يلزم الناس في مسائل الاجتهاد برأيه ،

قال شيخ الإسلام جوابا على سؤال هل يلزم ولي الأمر الناس بمذهبه في مسائلا الاجتهاد :

فَأَجَابَ : لَيْسَ لَهُ مَنْعُ النَّاسِ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ وَلا مِنْ نَظَائِرِهِ مِمَّا يَسُوغُ فِيهِ الاجْتِهَادُ وَلَيْسَ مَعَهُ بِالْمَنْعِ نَصٌّ مِنْ كِتَابٍ وَللاسُنَّةٍ وَلاإجْمَاعٍ وَلَا مَا هُوَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ ؛ لا سِيَّمَا وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى جَوَازِ مِثْلِ ذَلِكَ وَهُوَ مِمَّا يَعْمَلُ بِهِ عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ فِي عَامَّةِ الأمصار . وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْحَاكِمَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ حُكْمَ غَيْرِهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَلا لِلْعَالِمِ وَالْمُفْتِي أَنْ يُلْزِمَ النَّاسَ بِاتِّبَاعِهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ ؛ وَلِهَذَا لَمَّا اسْتَشَارَ الرَّشِيدُ مَالِكًا أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى " مُوَطَّئِهِ " فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ . وَقَالَ : إنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَفَرَّقُوا فِي الآَمْصَارِ وَقَدْ أَخَذَ كُلُّ قَوْمٍ مِنْ الْعِلْمِ مَا بَلَغَهُمْ . وَصَنَّفَ رَجُلٌ كِتَابًا فِي الاخْتِلافِ فَقَالَ أَحْمَد : لا تُسَمِّهِ " كِتَابَ الاخْتِلافِ " وَلَكِنْ سَمِّهِ " كِتَابَ السُّعةِ " . وَلِهَذَا كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ : إجْمَاعُهُمْ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ وَاخْتِلافُهُمْ رَحْمَةٌ وَاسِعَةٌ .

وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ : مَا يَسُرُّنِي أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَخْتَلِفُوا ؛ لاَنَّهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا عَلَى قَوْلٍ فَخَالَفَهُمْ رَجُلٌ كَانَ ضَالا وَإِذَا اخْتَلَفُوا فَأَخَذَ رَجُلٌ بِقَوْلِ هَذَا وَرَجُلٌ بِقَوْلِ هَذَا كَانَ فِي الأمر سَعَةٌ .

وَكَذَلِكَ قَالَ غَيْرُ مَالِكٍ مِنْ الأئمة : لَيْسَ لِلْفَقِيهِ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ عَلَى مَذْهَبِهِ .

وَلِهَذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ الْمُصَنِّفُونَ فِي الأمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ : إنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ الاجْتِهَادِيَّةِ لا تُنْكَرُ بِالْيَدِ وَلَيْسَ لأحَدِ أَنْ يُلْزِمَ النَّاسَ بِاتِّبَاعِهِ فِيهَا ؛

وَلَكِنْ يَتَكَلَّمُ فِيهَا بِالْحُجَجِ الْعِلْمِيَّةِ فَمَنْ تَبَيَّنَ لَهُ صِحَّةُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ تَبِعَهُ وَمَنْ قَلَّدَ أَهْلَ الْقَوْلِ الآخَرِ فَلا إنْكَارَ عَلَيْهِ .

وَنَظَائِرُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ كَثِيرَةٌ : مِثْلَ تَنَازُعِ النَّاسِ فِي بَيْعِ الباقلا الْأَخْضَرِ فِي قِشْرَتِهِ وَفِي بَيْعِ المقاثي جُمْلَةً وَاحِدَةً وَبَيْعِ الْمُعَاطَاةِ وَالسَّلَمِ الْحَالِّ وَاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْكَثِيرِ بَعْدَ وُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ إذَا لَمْ تُغَيِّرْهُ وَالتَّوَضُّؤِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ وَالنِّسَاءِ وَخُرُوجِ النَّجَاسَاتِ مِنْ غَيْرِ السَّبِيلَيْنِ وَالْقَهْقَهَةِ وَتَرْكِ الْوُضُوءِ مِنْ ذَلِكَ وَالْقِرَاءَةِ بِالْبَسْمَلَةِ سِرًّا أَوْ جَهْرًا وَتَرْكِ ذَلِكَ .

وَتَنْجِيسِ بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَرَوْثِهِ أَوْ الْقَوْلِ بِطَهَارَةِ ذَلِكَ وَبَيْعِ الأعْيَانِ الْغَائِبَةِ بِالصِّفَةِ وَتَرْكِ ذَلِكَ .

وَالتَّيَمُّمِ بِضَرْبَةٍ أَوْ ضَرْبَتَيْنِ إلَى الْكُوعَيْنِ أَوْ الْمِرْفَقَيْنِ وَالتَّيَمُّمِ لِكُلِّ صَلاةٍ أَوْ لِوَقْتِ كُلِّ صَلاةٍ أَوْ الاكتفاء بِتَيَمُّمِ وَاحِدٍ وَقَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ أَوْ الْمَنْعِ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ " مجموع الفتاوى 30/79 ـ 81

*** كما أن الإسلام لا يعاقب على الخطأ في غير المسائل الجليلة والمحكمات ، مادام المخطئ متأوّلا ، ولهذا أقــرّ عبر عصور الإسلام ، الخلاف بين المذاهب الفقهية ، في مسائل لا تحصى ، وكثير منها الخطأ فيها واضح ، لمخالفته النص ، غير أنه لما كان ذلك في مسائل الفروع العمليّة ، أو في مسائل دقيقة يعذر فيها المخطئ بتأويل ، فقد أقــر فيهــا تعدد الآراء ، واختلاف المذاهب .

*** وكذا إن أريد بالتعددية ، التعددية السياسية المحضة ، أعني التي هي سياسة مصالح الأمة في هدى الشريعة ، كالأخذ بنظام سياسي يسمح بتداول السلطة بين أحزاب ، في نظام سياسي قائم على الشرع ، فتكون الأحزاب المتعددة تطرح حلولا للمشكلات الحياتية ، لا يخرج كل حزب منها ، عن الالتزام بأحكام الشريعة ، في نظام الخلافة الإسلامية ، بما يشبه ما كان يطلق عليه وزارة التفويض .

فهذا غاية ما يمكن أن يقال فيه ، إنه مشروع في الجملة ، إن احتيج إليه كان بها ، وإلا فمتى كان السلطان حاكما بالشرع ، قائما بالعدل ، ناصرا للملة ، حافظا للحقوق ومن أهمّها حقّ الشورى لمن هو أهل للشورى ، فقد أدى ما عليه ، فمن يوجب عليه التعددية السياسية مطلقا ، فهو مخطئ خطأ بينا ، زاعــمٌ مالا برهان له به من الشرع .

وقد ذكرنا فيما سبق ، في غير موضع ، أنه ليس ثمة في الكتاب والسنة ، ما يمنع من الاستفادة من الوسائل العصرية السياسية التنظيمية ، حتى في إدارة الدولة ، مادامت تحقق مقاصد الشريعة ولا تعارض نصا من نصوصها .

*** وكذا يقر الإسلام التعددية في الأفكار والابتكارات العلميّة الدنيوية ، والفنون المباحة ، والعادات ، ونحو ذلك مما فطر الله الخلق على التنوّع فيه ، لأن ذلك من طبيعة الخلق التي فطر الله الناس عليها ، وهي تثري المجتمعات ، وتضفي عليها تلونا جميلا ، فهو أمر محمود مطلوب ، ومازالت أمتنا تحوي هذا التنوع المحمود في تاريخها منذ عصر الصحابة من غير نكير ، هذا ولم تزل أمتنا مزيجا متنوعا رائعا من شعوب شتى ، تختلف في عاداتها والوان فنونها ، ومعايشها ، ولغاتها ، غير أنها تجتمع على ثوابت الأمة العامة وهي أصول هذا الدين العظيم .

*** أما التعددية في عرف العصر ، فإنها يقصد بها في الغالب عند الإطلاق ، السماح بما يسمى التعدد الثقافي ـ والسياسي تبع له ـ القائم على أصول تناقض أصول الشريعة ، وليس المقصود هنــا ـ في هذا العرف العصــــري ـ السكوت عن الباطل ما بقي اعتقادا بالقلب ، أو إقرار أهل الأديان التي يكونون أهل ذمة على دينهم وعباداتهم ، بالشروط الشرعية المرعية .

بل المقصود الإذن بإظهار الدعوة إلى الكفر ، والمنكر ، وحماية الداعين إلى ذلك بالقوانين ، كما تنص على ذلك الدساتير العلمانيّة الوضعيّة تحت شعار الديمقراطيّة .

فهذا من الكفر ، بل هو الكفر نفسه ، وما أشبه هذه العقيدة الكفرية بقول المشركين ( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلهاً وَاحِداً إنّ هَذّا لَشَيءٌ عُجَابْ ) .


*** ومن الواضح أن هذا ليس من التعددية في ثقافة امة في شيء ، بل هو اختراق ثقافي لها ، وغزو عقدي من ثقافة أمة إلى أمة أخرى ، فتسميته تعددية من التلاعب بالألفاظ .

ومن يدعو إلى مثل هذا ، دون ان يشترط أن تغير الاحزاب عقائدها وتدين بالإسلام ، وتُسلك في نظام لايتحاكم إلا إلى الشريعة ، يبيّن له حقيقة ما يدعو إليه ، وأنه يناقض أصل الدين ، فإن أصر فهو مرتد له حكم أمثاله من المرتدين .

وأما من يحتج على جوازه بوجود الزنادقة في تاريخ الإسلام ، فهو كالقدرية المشركة التي تستدل بوقوع الكفر على إباحته ، كماقالى تعالى :

" وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ " .

وما هذه الأحزاب العلمانيّة اللادينيّة ، والمرتدة الضالة ، الداعية إلى ما ينقض الإسلام إلا زنادقة العصر ، ومن طالب بأن يشرع لهم تشريع يبيح لهم الدعوة إلى كفرهم وحماية دعوتهم ، فحكمه حكمهم .

وأما من يحتج على جواز ما يسمى "التعدديّة " ، بوجود الفرق الضالّة التي لم تخرج عن الإسلام ، وجودها في تاريخ الإسلام ، فيقـــــال :

أولا : إن تلك الفرق كانت من جملة المسلمين ، المقرين بالتنزيل والانقياد للوحي في الجملة ، وإنما ضلّوا في تأويله ، لا في تنزيله ، فلا يصح قياس الزنادقة عليهم ، وهي هذه الأحزاب اللادينية العلمانية .

وثانيا : لا يحتج بما يقع في الوجود ، على أنه مشروع ، كما تقدم ، وقد وقع في تاريخ ملوك الإسلام من المخالفات الشرعية ما الله به عليم ، وليس هذا بحجة .

وأما زعم الزاعم إقرار العلماء لوجود الفرق الضالة ، فلم يقرّوه ، بل أنكروا عليهم بدعهم ، وبيّنوا ضلالهم وحذّروا منهم ، كما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقوله ( فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه ، فأولئك الذين سمّى الله فاحذروهم) .

ولا أعلم عالما من أهل السنة ، أباح لسلطان أن يشرّع لأهل البدع والضلالة تشريعا يسمح لهم بالدعوة إلى منكراتهم وبدعهم ، أو ينصب لهم منبراً يمكنهم من ذلك ، كيف وقد أمر الله تعالى بإنكار المنكر إن ظهر ، وجعل ذلك من أعظم واجبات الدين ، وجعله حقا عاما للمسلمين ؟!!

ولهذا كان عمر رضي الله عنها يعاقب على إظهار منكرات البدع أشد العقوبة ، وكان في ذلك قائما بالقسط ، حاكما بالعدل ، عاملا بالكتاب ، كما فعل بصبيغ بن عسل .

وقد اتفق العلماء على وجوب منع أهل البدع من إظهار بدعهم ، وأن السلطان يكون مفرطا فيما يجب عليه إن لم يفعل ، كما اتفقوا على وجوب قتال أهل البدع إن كانوا طائفة ممتنعة ، وتنازعوا هل يجوز قتل الواحد منهم :

قال شيخ الإسلام : " وأمــــا الواحد المقدور عليه من الخوارج والرافضة فقد روي عنهما - أعني عمر وعليا - قتلهما أيضا ، والفقهاء وإن تنازعوا في قتل الواحد المقدور عليه من هؤلاء فلم يتنازعوا في وجوب قتلهم إذا كانوا ممتنعين " .

وأما الرد على من زعم أن عليا رضي الله عنه أباح للخوارج الدعوة إلى ضلالهم ، ومكّنهم من ذلك ، فنذكر أولا الرواية ، ثم نبيّن بطلان هذا الاستدلال .

قال ابن كثير رحمه الله :
"
ذكر خروج الخوارج من الكوفة ومبارزتهم عليا رضي الله عنه بالعداوة والمخالفة وقتال علي إياهم وما ورد في ذلك من الأحاديث .

لما بعث علي أبا موسى ومن معه من الجيش إلى دومة الجندل اشتد أمر الخوارج وبالغوا في النكير على علي وصرحوا بكفره، فجاء إليه رجلان منهم، وهما زرعة بن البرج الطائي، وحرقوص بن زهير السعدي، فقالا: لا حكم إلا لله. فقال علي: لا حكم إلا لله. فقال له حرقوص: تب إلى الله من خطيئتك، وارجع عن قضيتك، اذهب بنا إلى عدونا حتى نقاتلهم حتى نلقى ربنا.
فقال علي: قد أردتكم على ذلك فأبيتم، وقد كتبنا بيننا وبين القوم كتابا وعهودا، وقد قال الله تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ الآية ، فقال له حرقوص: ذلك ذنب ينبغي أن تتوب منه. فقال علي: ما هو بذنب ولكنه عجز من الرأي، وقد تقدمت إليكم فيما كان منه، ونهيتكم عنه.

فقال له زرعة بن البرج: أما والله يا علي لئن لم تدع تحكيم الرجال في كتاب الله لأقاتلنك أطلب بذلك وجه الله ورضوانه.

فقال له: تبا لك ما أشقاك! كأني بك قتيلا تسفى عليك الريح. فقال: وددت أن قد كان ذلك.

فقال له علي: إنك لو كنت محقا كان في الموت تعزية عن الدنيا، ولكن الشيطان قد استهواكم.

فخرجا من عنده يحكمان أمرهما، وفشى فيهم ذلك، وجاهروا به الناس، وتعرضوا لعلي في خطبه

وأسمعوه السب والشتم والتعريض بآيات من القرآن، وذلك أن عليا قام خطيبا في بعض الجمع فذكر أمر الخوارج فذمه وعابه.

فقام إليه جماعة منهم كل يقول: لا حكم إلا لله. وقام رجل منهم وهو واضع أصبعه في أذنيه يقول: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ فجعل علي يقلب يديه هكذا وهكذا وهو على المنبر يقول: حكم الله ننتظر فيكم.

ثم قال: إن لكم علينا أن لا نمنعكم مساجدنا ما لم تخرجوا علينا، ولا نمنعكم نصيبكم من هذا الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا " أ.هـ

فليس في هذا ـ إن صح إسناده ـ حجة البتة على أنه يجوز تمكين أهل البدع من إظهار بدعهم ، والدعوة إليها ، والمطالبة بتأسيس حزب يدعو إلى الضلالة بقانون يحميهم ، ولا يقول بهذا عالم يفقه هذه الشريعة ، فيعارض النصوص المحكمة الآمرة بإقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، باليد ، يـد السلطان ، ويـد من يقدر وجوبا ، قبل اللسان والقلب .

وإنما كان هذا القول من علي رضي الله عنه ، تبرئة للذمة ، وقطعا لأي حجة قد يحتج بها مبطل فيما لو قام رضي الله عنه فقاتلهم ، فقال : إن كنتم مع جماعة المسلمين ، لم تُمْنعوا من المساجد ، وإن كانت أيديكم معنا في جهاد اعداءنا ،لم تمنعوا الفيء ، ولا نقاتلكم حتى تقاتلونا ، وسكت عما وراء ذلك ، وكان بينه وبين القوم مناوشات ، وكانوا طائفة خرجت من جيشه ، في وقت يحارب أعداءه ، وكان يتربص بهم حكم الله فيهم ، وأن يحسّهم حسّا بسيفه فرحا بذلك ، مستبشرا بما سيجريه الله على يديه من الخير العظيم بإنكار منكرهم العظيم .

وليس في هذا من الدلالة ، من شيء ، على أن الإمام له أن يأذن بإظهار البدع ، أو يقر الدعاة إليها فلا يأخذ على أيديهم ! عجبا لهذا الاستدلال ما أضعفه ، وأبعده عن الفهم الصحيح !

بل ما يجب على الإمام العادل ، من منع إظهار البدع ، أعظم مما يجب من منع إظهار المعاصي ، فالولايات أصلا لم تنصب إلا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما تقدم .

وقد كان علي رضي الله عنه ، يمنع ويعاقب على بدع أدنى من بدع الخوارج ، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله :

" وروي عنه بأسانيد جيدة أنه قال : لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري . وعنه أنه طلب عبد الله بن سبأ لما بلغه أنه سب أبا بكر وعمر ليقتله فهرب منه ، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه أمر برجل فضله على أبي بكر أن يجلد لذلك ، وقال عمر رضي الله عنه لصبيغ بن عسل ؛ لما ظن أنه من الخوارج : لو وجدتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك ، فهذه سنة أمير المؤمنين علي وغيره قد أمر بعقوبة الشيعة : الأصناف الثلاثة وأخفهم المفضلة ، فأمر هو وعمر بجلدهم "

وكذا كانت سنة الخلفاء ، قال شيخ الإسلام ابن تيميه :

" فأما إذا كانت البدعة ظاهرة - تعرف العامة أنها مخالفة للشريعة - كبدعة الخوارج والروافض والقدرية والجهمية .

فهذه على السلطان إنكارها ؛ لأن علمها عام ، كما عليه الإنكار على من يستحل الفواحش والخمر وترك الصلاة ونحو ذلك .

ومع هذا فقد يكثر أهل هذه الأهواء في بعض الأمكنة والأزمنة حتى يصير بسبب كثرة كلامهم مكافئا - عند الجهال - لكلام أهل العلم والسنة حتى يشتبه الأمر على من يتولى أمر هؤلاء فيحتاج حينئذ إلى من يقوم بإظهار حجة الله وتبيينها حتى تكون العقوبة بعد الحجة .

وإلا فالعقوبة قبل الحجة ليست مشروعة : قال تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } .

ولهذا قال الفقهاء في البغاة إن الإمام يراسلهم فإن ذكروا شبهة بينها وإن ذكروا مظلمة أزالها كما أرسل علي ابن عباس إلى الخوارج فناظرهم حتى رجع منهم أربعة آلاف وكما طلب عمر بن عبد العزيز دعاة القدرية والخوارج فناظرهم حتى ظهر لهم الحق وأقروا به ، ثم بعد موته نقض غيلان القدري التوبة فصلب " أ.هـ.

*** والحاصل : أن التعدديــة بالمفهوم العصري كفر وضلال مبين ، والتعددية ـ إن جاز هذا الإطلاق ـ التي وجدت في الإسلام ، هي أمر آخر يختلف اختلافا عظيما ، بل يتناقض تناقضا تاما مع التعددية في عرف العصر .

*** مع أنه يجب أن يعلم أن ثمة فرق كبير بين التعاطي مع واقع سياسي مخالف ، لم يصنعه الإسلام ، التعاطي معه بما يحقق مصلحة المسلمين ، وبين إقامة أو المشاركة أو الدعوة إلى إقامة هذا الواقع المخالف بإسم الإسلام .

وذلك يشبه من وجه ما يقولــه الفقهاء : قـــد يجوز استدامة ، ما لا يجوز ابتداء .

وذلك أيضا كما يجوز للمسلم أن يرتكب أدنى الضررين ليدفع أشدهما عند التزاحم ، ولا يجوز له أن يصنع الضررين بنفسه ، ليختار أدناهما ضررا !!

ومن الأمثلة على هذا أن المسلمين لا يجوز لهم أن يطالبوا بقضاء لا يقضي بالشرع ، ولا أن يشاركوا في صناعة هذا النظام ، لكن إن وجدوا في نظام قضائي يخالف الشرع ، جاز لهم التحاكم إليه إن اضطروا لرفع الظلم عنهم ، كما رفع نبي الله يوسف عليه السلام شكايته على ظلم الوزير ، إلى الملك الكافر ، رسالة مع ساقي الملك الذي يسقيه الخمر .

فالعجب والله كل العجب ممن يقول ، إن هذه الأحزاب المخالفة للإسلام ودعوتها إلى كفرها وضلالها ، واقع ما له من دافع ، فلماذا لا نقنن هذا الواقع بما يحميه ، وينظّمه ، ويشرّعه ؟!

فما مثل هذا القائــــل ـ ليت شعري ـ إلا كمثل من يرى الخمر قد شاع شربها ، والفاحشة قد ذاع فعلها ، فدعا إلى تشريع ينظم العصابات القائمة على هذه المنكرات ، وتنظيمها في ناظم يقنّنها !!

بل الدعوة إلى تنظيم الداعين إلى المنكر في الاعتقادات ، والعلم ، والتصورات التي تفسد الإيمان ، وتقنين دعوتهم ، أشد قبحا ، لو كانوا يعلمون .

*** وأخيرا فإن هذه التعددية العصرية الزائفة ، ما هي إلا خداع ألقاه مفكروا الغرب التائهون إلينا ، فاغتر به من خضع لضغط هذا الواقع الجاهلي المزيّف ، لتبقي هذه الأمة في حال الفرقة والخلاف .

أما العالم الغربي فقد بقى متشبثا بالجامع الذي يجمع الأمة ، متعصبا له أشد التعصب ، متطلعا لفرضه على العالم .

كما قال المفكر الدكتور عبد الوهاب مسيري عن الفكر المادي الغربي بشكل عام :

" يمكن القول بأن النموذج الكامن وراء جميع الأيدلوجيات العلمانية الشاملة ـ ومثل لها بالليبرالية أيضا ـ هو ما يسمى " التطور أحادى الخط " UNILINAR، أي الإيمان بأن ثمة قانونا علميا وطبيعيا واحدا للتطور تخضع له المجتمعات والظواهر البشرية كافة ، وأن ثمة مراحل تمر بها كل المجتمعات البشرية تصل بعدها إلى نقطة تتلاقى عندها سائر المجتمعات والنظم بحيث يسود التجانس ، وهذا ما يسمى أيضا " نظرية التلاقي " CONVERGENC THEORY

والتلاقي هو تواجد النماذج كلها بحيث تبع نمطا واحدا وقانونا عاما واحدا ، هو قانون التطور والتقدم بحيث يصبح العالم مكونا من وحدات متجانسة ، ما يحدث في الواحدة يحدث في الأخرى ، ويرى بعض المؤرخين أن العصر الحديث هو بحق عصر نهاية التاريخ " أ.هـ الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ 267

ولهذا فإني لا أجد في وصف هذا الزيف الذي يسمى التعددية أحسن من وصف الكاتب راسل جاكوبي في كتابه " نهاية اليوتوبيا " حيث قال :

" فضلا عن أن مونتييه الذب ابتكر الشعار عاش حياة لايمكن أن توصف بالاستقامة ، ولقي حتفه مختنقا في مبغى ، وباختصار إن الشعار المرفوع كشعار للتعددية الثقافية الأمريكية ، ليس فقط مفتقدا تراثا كلاسيكيا واضحا ، بل مختلطا أيضا بالغموض والفضيحة ، وهذا أحد مؤرخي القرن التاسع عشر ، حين بحث في هذا التاريخ الشائك ، وجدها أمرا مخزيا :

لقد كنا غير محظوظين بشكل استثنائي ، في اختيار هذا الشعار ، ومن الصعب أن تجد شعارا آخر أكثر ابتذالا ، وأقل لباقة منه بالتأكيد ، ليس ثمة شعار يمكن أن يكون نابيا وبلا دلالة مثله ، شعار ذو أصل حديث مبتذل لا علاقه له بأصل كلاسيكي ، شعار بلا مستدعيات أدبية أو تاريخيه ، شعار مجرد تماما من أي صدى ديني أو أخلاقي ، شعار يمكن أن يعني الإتحاد أو التفكك في أهواء كل فرد ، ولسوء الحظ غالبا ما يعني المعنى الأخير لدى واضعيه الأصليين " ص 45

وينبغي أن يعلم أنه يجب على المسلمين الدعوة إلى الحق الذي نزل به الوحي ، والاجتماع عليه ، وجهاد ضده .

ثم إن لهم أحوالا :

1ـ أن يُمكّنوا في الأرض ، فيجب عليهم أن يقيموه كما أمره الله تعالى ، بالسلطان القاهر ، والسيف الظافـر ، وأن يجتمعوا على الحق ولا يتفرقوا فيه ، وأن يحكموا بين العباد بما أنزل الله تعالى ، وأن يجاهدوا في الأرض لإعلاء كلمة الله .

2ـ أن لا يُمَكّنوا فيجب عليهم الصبر على غربتهم ، مع التمسك بالحق دون تنازل عنه ، ولا مداهنة فيه ، والسعي لتجميع أسباب القوة ، حَتّى يُمَكَّن لِحَقّهِمْ ويعلون به على الجاهلية .

3 ـ أن يستجمعوا أسبابا من القوة تمكنهم من الجهاد ، فيجب عليهم أن يقوموا به ، مجاهدين بالسلاح حتى يصلوا إلى التمكين .

أما أن يجدوا أنفسهم في غربة بسبب تمسكهم بالحقّ ، فيشتـدّ عليهم بلاؤها ، فيدفعونها عنهم جزعــا بتأويل الشرع المنزّل ، ليوافق الواقع الجاهلي المبدّل ؟! فهذا هو الذي حذر الله تعالى منه نبيه صلى الله عليه وسلم قائلا : " وَدّوُا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُوُن " ، وهو البلاء المنتشر هذه الأيام ، قد تكبكب الناس فيه زرافات ووحدانا ، وضلّ فيه من ضلّ ، وزاغ فيه من زاغ ، وهو خلاف ما أمر الله به من الثبات على الهدى ، والصبر على الغربة فيه ، نسأل الله أن يثبتنا بفضله ومنّه وكرمه .

وقد عاش من عاش من الأنبياء في غربةٍ فصبروا ولم يغيروا ولم يداهنوا ، ومضى من مضى من الصالحين أولي بقية ينهون عن الفساد في الأرض في غربة فثبتوا ، وما بدّلوا تبديلا .

وإنما الأمر لله ، بيده الأمر كلّه ، وإليه يرجع الأمر كلّه ، علانيته وسره ، ليس علينا سوى الاستقامة على ما أمر ، والدعوة إلى دينه بالثبات والصبر .

والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا

الكاتب: سائل
التاريخ: 13/12/2006