الجرح والتعديل للعلماء والدعاة ؟ |
|
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد :
فإنه ينبغي التنبّه إلى أنه مــن الناس من يخلـط هنــا بين ثلاثة أبواب :
أحدها : الجرح والتعديل الذي يكون لرواة الحديث ، تميّيزا للحديث المقبول من المردود ، وهذا قد مضى زمانه ، أو لشهود الحكم والقضاء ، وهذا إنما يكون في القضاء .
والثاني : معرفة من تؤخذ عنه الفتوى ، أويُطلب عليه العلم الشرعـي.
والثالث: واجب الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والنصح لكـل مسـلم .
ولكــلّ باب من هذه الأبواب ضوابــطه ، والخلط بينهـا ، من أسباب الغلط في الفكر والسلوك في باب الحكم على الناس ، من العلماء ، والدعاة ، والمجاهدين ، والمصلحين ، والمفكرين ، ما أثمـر كثيرا من الفوضى في الساحة الإسلامية .
ذلك أنه بعض الناس يزيّن له الشيطان ، أنـّه يجب على طالب للعلم ، أن ينشغل بتجريــح الدعاة وأهل العلم وتعديلهم ، مع أنـّـه ـ إن فعل ذلك ـ سيفعله مقلدا لغيره ، والمقلّد جاهــل باتفاق العلماء ، مع أن التقليد إنما يكون فيما يحتاج العبد إليه من أمر دينه ، وعامـّة الناس ، وكذا طلاب العلــم ، ليسوا بحاجة إلى هذا الباب إلا في حدود ضيقة ، بل هم مأمـورون بكفّ ألسنتهم عن الإنشغال بعيوب الناس ، ولاريب أن هذا هو الأصل العام الذي دلت عليه نصوص الشرع ، واستقامت عليه قواعده ، أن إنشغال العبد بنجاة نفسه ، والتفاته إلى إصلاح باطنها وظاهرها ، يجب أن يكون همـّـه الأكـبر ، ينفق فيه عمــره كلــّه ، فقضيّة الحساب الإلهي مبنيّة على فردية التبعة ، وحتـى إذا تعدّى فعـل العبــد إلى غيــره ـ أمرا بالمعروف أو نهيا عن المنكر ـ فهو من باب إصلاح نفسه ، وفعل مالابد له من فعله لئلا يقع في الذنب ، فهو راجع إلى إصلاح النفس أصلا.
ولاريب أن تربية طلاب العلــم ، على إصلاح قلوبهم ، وألسنتهم ، واعمالهم ، وأحوالهم ، وغرس الخلق الكريم فيهم ، كما قال الإمام عبدالله بن المبارك رحمــــه الله : ( طلبت الأدب ثلاثين سنة , وطلبت العلم عشرين سنة , وكانوا يطلبون الأدب قبل العلم )ذكر ابن الجزري في غاية النهاية ، وذ كر عنه ابن الجوزي في صفة الصفوة ( كاد الأدب يكون ثلثي العلم ) .
أنـّه خيرٌ لهم من إشغالهم بتتبّع عورات الناس ، فتقسو قلوبهم ، وتغلظ طباعهم ، ويتحوّلون إلى بلاء على الأمـّة ، يُفتَنون ويَفتِنون غيرهم ، ثم إن سنة الله أن يعود ظلمهم عليهم ، فيعتدى عليهم بمثل ما اعتدوا ما صح في الحديث : " يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته " رواه أصحاب السنن من حديث البراء رضي الله عنه .
والمقصود أن إشغال طلاب العلم بجرح الدعاة وتعديلهم والكلام في أعراضهم ،وتتبع عوراتهم وأخطاءهم ، ضرب من الجهل والتخبـّـط ، ولهذا لايعرف مثل هذا النهج في سلوك سبيل العلم الشرعي فيما مضى في تاريخ أمتنا .
أما معرفة من تؤخذ عنه الفتوى ، ويُطلب عليه العلم ، فقد ذكر العلماء أن طالب العلم يتجنب أهل البدع ، والأهواء ، ويلازم أهل المعرفة بالكتاب والسنة ، من العلماء الربانيين ، كمــا ورد عن ابن سيرين ومالك رحمهما الله : ( إن هذا العلم دين ، فأنظروا عمن تأخذون دينكم ) .
وقــد ذكــروا أن من أهم صفات المعلّم أن يكون ذا خلق حســن ليقتدي به الطلــبة ، مع حسن الهدي والسمت ، كما روى الخطيب في الجامع عن إبراهيم بن حبيب الشهيد قال : قال لي أبي ( يا بُني إيت الفقهاء والعلماء , وتعلم منهم ، وخذ من أدبهم ، وأخلاقهم ، وهديهم , فإن ذاك احب إلي لك من كثير من الحديث ) ، وفي الزهــد لإبن المبارك : عن الحسن البصري : ( كان الرجل يطلب العلم فلا يلبث أن يُرى ذلك في تخشّعه وهديه ولسانه ويده ) ، فمن ظهرت عليه آثار العلم هذه ، من أهل السنة ، فهو أولى من يطلب عليه العلم .
وإذا استرشد طالب العلم مع إخلاص النية ، وصدق التوجه ، يييسر الله له من يرشده إلى أهل العلم الذين هذه صفتهم ، أما أن ينشغل بجرح العلماء وتعديلهم ، تقليدا لما يقوله غيره ، بحجّة أنه ينظـر عمّن يأخذ عنه دينه ! فما هو إلا تلبيس إبليس .
أما واجب الأمر بالمعروف ، و النهي عن المنكر ، والنصح للمسلمين ، في باب التحذير من البدع ، والأهواء المضلّـة ، في الأقوال ، والأفعال ، والأحوال غير الشرعيــة ، وتحذير الناس منها ، والــردّ على أهل الضلالة ، وكشف عوار بدعهم ، مع ذكر اسماءهــم إن اقتضى المقام ذلك ، ولم يتم واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا به ، فهذا إنما يجب على أهل العلم بشروطه المعروفة ، لايخاطب بـه كلّ الناس ، ولايصح أن ينشغل بـه طالب للعلم عمّا هو أولى ، لكن إن وقع له من ذلك ما يصير به مكلفا أن يقوم بهذا الواجب ، قام به إن تمّت شروطه ، وإلا فإن إشغال طالب العلم به في أول الطلب ، فساد في منهجه .
هذا وقـد تقــرر عند أهل العلم ، أنه لاينقد كلام أهل العلم ، والقائمين بالدعوة ، إلاّ من تأهـّـل لذلك ، وحينئذ يجب عليه أن يتحلّى بالإنصاف ، فلايبخس الفضل ، ولا يهدر الحسنات ، بل يزن ما عند غيره ممن ينقده ، من صواب وخطأ ، وسنة وبدعة ، وطاعة ،ومعصية ، ويحكم عليه بالعدل والقسطاس المستقيم ، هذا هو منهج أهل السنة والجماعــة .
كما قال الشيخ الإمام عبد الرحمن بن حسن : ( وليعلم أن المؤمن تجب موالاته ومحبته على ما معه من الإيمان ، ويبغض ويعادي على ما معه من المعاصي ، وهجره مشروع إن كان فيه مصلحة وزجر وردع ، وإلا فليعامل بالتأليف وعدم التنفير والترغيب في الخير برفق ولطف ولين لان الشريعة مبنية على جلب المصالح ودفع المضار والله ولى الهداية ) . مجموعة الرسائل والمسائل النجدية2/135
وقال شيخ الإسلام ابن يتمية : ( ومن جعل كل اجتهاده في طاعة اخطأ في بعض الأمور مذموما معيبا ممقوتا فهو مخطئ ضال مبتدع ) مجموع الفتاوى 19/5
وقد شيخ الإسلام عن أهل السنة قاطبة هذه الخصلة الحميدة ، قال رحمه الله : (قلت قد ذم أهل العلم والإيمان من أئمة العلم والدين من جميع الطوائف من خرج عما جاء به الرسول ، في الأقوال والأعمال باطنا أو ظاهرا ومدحهم هو لمن وافق ما جاء به الرسول ، ومن كان موافقا من وجه ، ومخالفا من وجه، كالعاصي الذي يعلم أنه عاصي ، فهو ممدوح من جهة موافقته ، مذموم من جهة مخالفته .
وهذا مذهب سلف الأمة وأئمتها من الصحابة ومن سلك سبيلهم في مسائل الأسماء والأحكام ، والخلاف فيها أول خلاف حدث في مسائل الأصول ، حيث كفرت الخوارج بالذنب وجعلوا صاحب الكبيرة كافرا مخلدا في النار ، ووافقتهم المعتزلة على زوال جميع إيمانه وإسلامه وعلى خلوده في النار، لكن نازعوهم في الاسم فلم يسموه كافرا ، بل قالوا هو فاسقا لا مؤمن ولا مسلم ولا كافر فأنزلوه منزلة بين المنزلتين، فهم وإن كانوا في الاسم إلى السنة أقرب ، فهم في الحكم في الآخرة مع الخوارج .
وأصل هؤلاء أنهم ظنوا أن الشخص الواحد ، لا يكون مستحقا للثواب والعقاب والوعد والوعيد والحمد والذم ، بل إما لهذا وإما لهذا فأحبطوا جميع حسناته بالكبيرة التي فعلها ) ( شرح العقيدة الإصفهانية ص 138 )
أما إن كان الشخص المخطىء من أئمة العلم ، فكما قال الإمام الذهبي : " ( ثم إن الكبير من أئمة العلم ، إذا كثر صوابه ، وعلم تحرّيه للحق واتّسع علمه ، وظهر ذكاؤه ، وعرف صلاحه ، وورعه ، واتّباعه ، تُغفر له زلته ، ولا نضله ونطرحه وننسى محاسنه ، نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه ، ونرجوا له التوبة من ذلك ) السير 5/271