هل يجوز إظهار الكفر للتوصل بذلك لمصلحة فكاك أسير؟

 

السؤال:

أمر قائد مجموعة جهادية أحد المجاهدين بالتنكر في لباس قسيس و لبس الصليب و الدخول إلى كنيسةٍ في إحدى بلاد الكفر ، و الصلاة فيها بصلاة النصارى ؛ و ذلك ليقوم بإنقاذ حياة أحد المسلمين الأسرى ، و قد قام بتنفيذ الأوامر كاملةً ، و تم إنقاذ حياة المسلم .
السؤال : هذا المجاهد قد ارتكب عملاً كفرياً ( لِبس لِباس القسيس ، و تعليقُ الصليب ، و الصلاة النصرانية ) ، و هو يَعتَبِرُ ذلك عملاً كُفرياً ، و لم يفعله إلا لإنقاذ أخيه المسلم ، و لخداع من كان يريد قتله ، فما حُكمُ الشرع في هذا العمل ؟
هذا وقد استدل البعض بقصة نعيم بن مسعود ، وقول الحجاج بن علاط في قصة فتح خيبر ، وقول محمد بن مسلمة في قصة اغتيال كعب بن الاشرف ، وأنهم قالوا ما ظاهره الكفر ، لمصلحة دينية ، وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم فما ردكم على ذلك ؟

*********************

جواب الشيخ:

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد : ـ
ــــــــــ

أما قصة نعيم بن مسعود رضي الله عنه ، فليس فيها أنه أظهر الكفر ، أما الذي رُوِي فهو أنه صلى الله عليه وسلم قال له : ( إنما أنت رجل واحد فينا ، ولكن خذل عنا إن استطعت ، فإن الحـرب خدعة ) وقد رواه عبد الرزاق من حديث ابن المسيب مرسلا ، وموسى بن عقبة من روايته المرسلة عن الزهري .

ولا يُعلم نص ما قاله نعيم بن مسعود رضي الله عنه ، فإنه لم يصح شيء يتضمّن ما قاله صريحا ، وإنما ورد الخبر مرسلا كما تقدم والله اعلم .


‏أما حديث الحجاج بن عِلاط فلفظه : ( لما افتتح رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏خيبر ‏ ‏قال ‏ ‏الحجاج بن علاط ‏ ‏يا رسول الله إن لي ‏ ‏بمكة ‏ ‏مالا وإن لي بها أهلا وإني أريد أن آتيهم فأنا في حل إن أنا نلت منك أو قلت شيئا ‏ ‏فأذن له رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏أن يقول ما شاء فأتى امرأته حين قدم فقال اجمعي لي ما كان عندك فإني أريد أن أشتري من غنائم ‏ ‏محمد ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏وأصحابه فإنهم قد استبيحوا وأصيبت أموالهم ) رواه أحمد وغيره ، من حديث أنس رضي الله عنه .

وأما حديث قتل كعب بن الاشرف : فقد قال محمد بن مسلمة : ( إن هذا الرجل قد عنّانا ـ أي أتعبنا ـ وسألنا الصدقة ، قال وأيضا فوالله لتملنّه ، قال : فإنا اتبعناه فنكره أن ندعه حتى ننظر إلى ما يصير أمره ) رواه البخاري من حديث جابر رضي الله عنه .

وقد دل حديث كعب بن الاشرف على جواز الكـــذب في الحرب كما بوّب البخاري للحديث الثاني ( باب الكذب في الحرب ) .

ولا يصح الاستدلال بالخبرين على جواز إتيان الكفر ظاهرا ، في حال الحرب ، لان أذى النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم بالنيل منه ، الذي هو كفر ، لم يتحقق هنا .

ذلك أنه صلى الله عليه وسلم ، قد أذن بقول ما يعلم أن قائله لا يقصد أذى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد كان صلى الله عليه وسلم ربما يعفو عن أذى من يؤذيه ، ولهذا لما قيل عنه صلى الله عليه وسلم في قسمة الغنائــــــم ، ( والله إنها لقسمة ما عدل فيها ) ، قال ( يرحم الله موسى ، فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر ) رواه البخاري .

والمقصود أن إذنه صلى الله عليه وسلم ، لقائل أن يقول عنه ما لا يريد بذلك أذاه ، بل يقول قولا يحتمل في ظاهر اللفظ أذاه ، وهو مع ذلك معظمُ للنبي صلى الله عليه وسلم ، متبعُ له ، قاصدُ نصر دينه ، أنه ليس فيه ما يدخل في باب إظهار الكفر أصلا ، ولهذا بوّب له البخاري رحمه الله ( باب الكذب في الحرب).

وهذا يختلف عن إظهار الكفر بتعظيم الشرك وعبادة غير الله تعالى ، فإن هذا لا يحل إلا بالإكراه ، كما هو نص القرآن ، قال العلامة سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله جميعا : ( اعلم رحمك الله أن الإنسان إذا أظهر للمشركين الموافقة على دينهم خوفا منهم ومداراة لهم ومداهنة لدفع شرهم فإنه كافر مثلهم ، وإن كان يكره دينهم ويبغضهم ويحب الإسلام والمسلمين ، ... ولايستثنى من ذلك إلا المكره ، وهو الذي يستولي عليه المشركون فيقولون اكفر ، أو افعل كذا ، وإلا فعلنا بك وقتلناك ، أو يأخذونه فيعذبونه حتى يوافقهم فيجوز له الموافقة باللسان مع طمأنينة القلب ) الدرر السنية 7/58


ولا يصح الاستدلال بمسألة الإكراه ، على قضيّة السؤال ، لانه ينبغي التنبه إلى أن من يظهر لبس الصليب ، وعبادة غير الله ، ويدخل الكنيسة متلبسا بهيئة الرهبان ، إنما يعتمد على حيلة يحتالها ، فقد يتوصل بها إلى فكاك الأسير ، وقد لا يحصل ذلك ، بخلاف الذي يقولون له افعل الكفر ، وإلا قتلناك ، أو ضربناك ، أو عذّبناك ، فيأخذ بالرخصة التي أخذ بها عمار رضي الله عنه ، ولهذا لا يصح القياس هنا أصلا .

ثم إن الأسير في هذا الزمان ليس بالضرورة يقتل في الأسر ، ولا حتى يعذّب فقد يقتل أو يعذّب ، وقد يُفدى ، وقد يبقى قادرا على إظهار دينه وفق قوانين بعض البلاد الكافرة ، آمنا على نفسه بين ظهرانيهم ، حتى يجعل الله له سبيلا ، وقد يطلق سراحه ، وقد يتمكن بنفسه من الهرب ، ويختلف ذلك باختلاف البلاد التي هو فيها ، وهذا معلوم في هذا الزمان لا ينكره أحد .

ولهذا فمن الخطأ إطلاق الفتوى بجواز أن يظهر الكفر ، من يظن أنه يتوصل بذلك إلى فكاك الأسرى ، حتى لو قيل بأنه قد يجوز في بعض الاحيان ، قياسا على جواز فعل الكفر للمكره ، ذلك أن أحوال الأسر تختلف .

ولم يقل أحــد ـ فيما أعلم ـ أن أسرى المسلمين يجوز لهم أن يظهروا للكفار الموافقة في دينهم ، طمعا في الإفراج عنهم ، ماداموا لم يكرهوا على ذلك بالتهديد بالقتل أو الضرب والتعذيب ، وقد كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، أسرى من المسلمين في أيدي الكفار ، فلم يظهروا إلا صلابة في دينهم .

والمقصود أن كون المسلم أسيرا عند الكفار ، ليس في حد ذاته رخصة ، تبيح له أن يأتي بالكفر الظاهر ، وهو تعليق الصليب ، فكذلك لئن لا يكون رخصة لغيره ممن يقصد فكاك الأسرى أولى .

هذا إن كان السائل يسأل عن تعليق الصليب ، وعبادة غير الله تعالى ، أما إن لم يصل الأمر إلى هذا الحد،بل أخفى حقيقته عنهم ، بلبس لباسهم ، ليظنوا أنه منهم ، فليس في ذلك موافقة للكفار ، بل غاية ما فيه التخفي عنهم بمشابهتهم في الظاهر في حال مخصوصة ، ليتوصل بذلك إلى خديعتهم ، وفك أسرى المسلمين ، وذلك مثل الجاسوس المسلم ، الذي يعيش بين الكفار ، ليعلم حالهم وقوتهم ، فلا بد له من أن يخفي حاله ، والله أعلم .

فائدة : قال الإمام القرطبي رحمه الله : قال المحققون : ( إذا تلفظ المكره بالكفر ، فلا يجوز أن يجريه على لسانه ، إلا مجرى المعاريض ، فإن في المعاريض لمندوحة عن الكذب ... ومثال ذلك أن يقال له : أكفر بالله ، فيقول ( باللاهي ) فيزيد الياء ، وكذلك إذا قيل له اكفر بالنبيّ ، فيقول هو كافر بالنبيّ ، مشددا وهو المكان المرتفع من الأرض .

الكاتب: سائل
التاريخ: 13/12/2006