الرد على من ضعف أحاديث القبض في الصلاة وأعل حديث وائل بن حجر في صحيح مسلم

 

السلام عليكم
فضيلة الشيخ أحسن الله إليك تصفحت رسالة بعنوان إبرام النقض لما قيل في أرجحية القبض .
وقد تكلم فيها صاحبها عن مذهب مالك في القبض في الصلاة ورجح هو الإرسال ومن جملة أدلته أنه ذكر حديث مسلم وقال أنه في ثلاث علل مستندا في ذلك على قول المازري أن الإمام مسلم روى أربعة عشر حديث منقطعة في صحيحه .
مع العلم يا شيخ بارك الله فيك أن بعض أهل المغرب كما ذكر بعض العلماء قدموا صحيح مسلم على البخاري ثم يأتي أحدهم ويقول فيه الضعيف والامة كلها تلقت الصحيحين بالقبول.
نرجو منك توضيح كلام المازري وكذا الراجح في مذهب مالك بالنسبة للقبض.
نفع الله بكم شيخنا.
جواب الشــيخ
الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد :
 
فأحاديث القبض لم تقصر روايتها على مسلم ، فهي في الصحيحين ،  والسنن ، وقد اشتهرت ،
 
كما قال الناظـم :
 
والوضع للكفّ على الكفّ وردْ *** عن النبيّ الهاشميّ فلا يُردْ
رواه مالكٌ وأصحابُ السننْ *** ومسلمٌ مع البخاري فاعلمنْ
 
وفي البخاري والموطـأ : (كان الناس يؤمرون أنّ يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة ، قال أبو حازم: لا أعلمه إلاَّ ينمى ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ) ومعلوم أنّ هذا من المرفوع لأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم هو الآمر .
 
وإنمّـا السدل هو الذي لم يرد فيه حديث أصلا إلاَّ ما رواه الخصيب بن جحدر الكذاب الذي كذبه كبار أئمة الحديث مثل شعبة ،  والقطان ، وغيرهما ، وحديثه عند الطبراني لاغير.
 
وقد قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله _ كما في فتح الباري _ عن القبض : ( لم يأت عن النبيّ - صلّى الله عليه وسلم - فيه خلاف , وهو قول الجمهور من الصحابة ، والتابعين , وهو الذي ذكره مالك في الموطأ , ولم يحك ابن المنذر ، وغيره عن مالك غيـره . وروى ابن القاسم عن مالك الإرسال )
 
وقال العلامة السنوسي في إيقاظ الوسنان : ( وقد لهج المتأخرون من المالكية بترجيح القول والرواية بمجرد وجودهما في المدونة ،  ولو خالف الكتاب ، والسنة الصحيحة...كما في مسألة سدل اليدين في الصلاة ، وردّوا الأحاديث السالمة من المعارضة ، والنسخ ، وتركوها لأجل رواية ابن القاسم في المدونة عن مالك ،  مع أن رواية القبض ثابتة عن مالك وأصحابه برواية ثقات أصحابه وغيرهم ) .اهـ.
 
وهذا هو التعصُّب المذهبي المذموم ، الذي تعاضدت نصوص الوحي على ذمّـه ، وحاربه أئمة السلف الصالح ، وعدُّوه من أعظم أسباب إنتشار البدع .
 
وأما ما ادّعاه بعض المتعصّبين للسدل في الصلاة من تعليل لحديث مسلم بثلاث علل فهي في غاية التهافت ولاتستحق الرد عليها ، إلاَّ ما ذكره في رواية علقمة عن أبيه وائل بن حجـر : ( أنـّه رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رفع يديه حين دخل في الصلاة فصفهما حيال أذنيه ،  ثم التحف بثوبه ثم وضع يده اليمنى على اليسرى ) وزعم أنَّ علقمه لم يلق أباه ،
،
 والصحيح أنَّـه لقيه ، وقد صرح بالسماع من أبيه في صحيح مسلم نفسه ، كتاب القسامة والمحاربين ، قال الإمام مسلم رحمه الله : حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبرى. حدثنا أبى. حدثنا أبو يونس عن سماك بن حرب، أنَّ علقمة بن وائل حدثه، أنّ أباه حدثه قال: إنى لقاعد مع النبىّ صلى الله عليه .. الحديث )
 
كما روى الإمام النسائي : أخبرنا سويد بن نصر قال : أنبأنا عبد الله بن المبارك ، عن قيس بن سليم العنبري ، قال :  حدثني علقمة بن وائل ،  قال : حدثني أبي ، قال : ( صليت خلف رسول الله فرأيته يرفع يديه إذا افتتح الصلاة وإذا ركع ، وإذا قال سمع الله لمن حمده هكذا ، وأشار قيس إلى نحو الأذنين ) ، وهذا إسناد ظاهر الصحة بحمد الله تعالى ، وفيه تصريح بالسماع .
 
والصحيح أنَّ الذي لم يسمع هو عبدالجبار أخو علقمة ، كما قال الإمام الترمذي في باب ما جاء في المرأة إذا أستكرهت على الزنـا : ( وعلقمة بن وائل بن حجر سمع من أبيه ، وهو أكبر من عبد الجبار بن وائل ، وعبد الجبارلم يسمع من أبيه) ، وكذا صرح بسماع علقمة من أبيه الإمام البخاري نفسه في التاريخ الكبير .
 
أما ما شغَّـب به من الإستدلال بما ذكره الإمام المازري أنَّ  في صحيح مسلم أربعة عشر حديثا مقطوعة الأسانيد ، فهذا من عجائب تلاعب الهوى بالمتعصِّبين ، فإن الإمام المازري لم يقـل إنّ هذه الأحاديث ضعيفة ، لأنهـا لم تصح موصولة من طرق أخرى ،
 
 وأحسن ما قيل في الجواب على ما ذكره المازري ، هـو ما قاله الإمام رشيد الدين النابلسي _ المتوفى 662هـ _   في كتابه غرر الفوائد المجموعة ، قال : ( الحمد لله حقّ حمده ، وصلواته وسلامه على محمد نبيّه ، وعبده ، وعلى آله وصحبه من بعده ، وبعد :
 
فهذه أحاديث مخرجة ، من صحيح الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري الحافظ ، ذكرها الإمام أبو عبدالله محمد بن علي التميمي المازري ، في كتابه المسمى بالمعلم ، ونص على أنها وقعت في كتاب مسلم ، مقطوعة الأسانيد، وعدها أربعة عشر حديثاً ، ونبه على أكثرها في مواضعها من كتابه ، إلاَّ أنه لم يبين صفة انقطاعها ، ولا ذكر من وصلها كلها من أئمة الرواة ، فربما توهـَّم الناظر في كتابه ممن ليس له عناية بالحديث ، ولا معرفة بجمع طرقـه، إنها من الأحاديث التي لا تتصل بوجه، ولا يصح الأحتجاج بها ، لانقطاعها ، وقد رأيت غير واحد يلهج بذكرها ، ويظنها على هذه الصفة ، وليس الأمر كذلك بل هي متصلة كلها والحمد لله من الوجوه الثابتة ، التي نوردها فيما بعد إن شاء الله ، وهذا القول الذي قاله الإمام أبو عبدالله المازري إنما أخذه فيما قيل من كلام الحافظ أبي علي الغساني الأندلسي ، فإنه جمعها قبله وعدها كذلك أيضاً إلا أنه نبـَّه على اتصال بعضها، ولم يستوعب ذلك في جميعها، ولعل المازري ، إنما ترك التنبيه على اتصالها ، لاكتفائه بما ذكره أبو علي الحافظ )
 
ثم العجب العجاب أنَّ الأحاديث التي أوردها المازري ليس فيها حديث علقمة بن وائل في شان القبض في الصلاة !
 
والحاصل أنَّ ما وقع في صحيح مسلم ممـَّا وُصف بالإنقطاع ، إنمّـا هو في ظاهر الأمر فحسـب ، كما قال الإمام أبو عمرو بن الصلاح في كتابه القيم : صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط ، وحمياته من الإسقاط والسقط ، قال : ( وقع في هذا الكتاب ، وفي كتاب البخاري ما صورته صورة الإنقطاع ،  وليس ملتحقا بالإنقطاع في إخراج ما وقع فيه ذلك من حيز الصحيح إلى حيز الضعيف).
 
وفيما يلي بعض ما ذكره العلماء من مكانة صحيح مسلم في كتب السنة ، ردا على من لمز في مكانته ليطعن في سنة وضع اليمين على الشمال في الصلاة ، تعصَّبا لمذهبه عافانا الله تعالى من التعصُّـب .
 
قال ابن الصلاح في صيانة مسلم ما ملخصه :  ص1217: (  هذا الكتاب ثاني كتاب صنف في صحيح الحديث ، ووسم به ، ووضع له خاصة سبق البخاري إلى ذلك ، وصلّى مسلم ، ثم لم يلحقهما لاحق ، وكتاباهما أصح ما صنفه المصنفون ... روينا عن مسلم رضي الله عنه قال صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة ، وبلغنا عن مكي بن عبدان ، وهو أحد حفاظ نيسابور ، قال: سمعت مسلم بن الحجاج يقول: لو أن أهل الحديث يكتبون مائتي سنة الحديث فمدارهم على هذا المسند ) ص 1217
 
وقال أيضا : ( جميع ما حكم مسلم بصحته من هذا الكتاب ؛ فهو مقطوع بصحته ، والعلم النظري حاصل بصحته في نفس الأمر ، ... وذلك لأنّ الأمة تلقّت ذلك بالقبول سوى من لا يعتد بخلافه ، ووفاقه في الإجماع ) ص 1222
 
وقال النووي شرحه على مسلم 1/122: ( ومن حقق نظره في صحيح مسلم رحمه الله واطلع على ما أورده في أسانيده ، وترتيبه وحسن سياقته ، وبديع طريقته من نفائس التحقيق ، وجواهر التدقيق ، وأنواع الورع ، والاحتياط والتحري في الرواية ، وتلخيص الطرق ، واختصارها وضبط متفرقها ، وانتشارها ، وكثرة إطلاعه ، واتساع روايته ، وغير ذلك مما فيه من المحاسن والأعجوبات ، واللطائف الظاهرات ، والخفيات علم أنه إمام لا يلحقه من بعد عصره ، وقل من يساويه بل يدانيه من أهل وقته ودهره ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم )
شرح مسلم للنووي 1/122
 
وقال في موضع آخر : (  اتفق العلماء ـ رحمهم الله ـ على أنّ أصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان البخاري ، ومسلم وتلقتهما الأمة بالقبول.. ـ إلى أن قال ـ وقد انفرد مسلم بفائدة حسنه ، وهي كونه أسهل متناولا ، من حيث أنه جعل لكلّ حديث موضعا واحدا يليق به جمع فيه طرقه التي ارتضاها ، وأورد فيه أسانيده المتعددة ، وألفاظه المختلفة ، فيسهل على الطالب النظر في وجهه ، واستثمارها ويحصل له الثقة بجميع ما أورده مسلم من طرقه ) 1/ 128_ 129
،
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( فإنّ الذي اتفق عليه أهل العلم أنه ليس بعد القرآن كتاب أصح من كتاب البخاري ، ومسلم ، وإنما كان هذان الكتابان كذلك ؛ لأنـَّه جرد فيهما الحديث الصحيح ) مجموع الفتاوى 20/321
 
وقال في موضع آخر : ( وأما كتب الحديث المعروفة مثل البخاري ومسلم ، فليس تحت أديم السماء كتاب أصح من البخاري ومسلم بعد القرآن ) 18 /74
 
وقال الإمام ابن القيم  : ( وأهل الحديث متفقون على أحاديث الصحيحين وإن تنازعوا في أحاديث يسيرة منها جداً ، وهم متفقون على لفظها ، ومعناها كما اتفق المسلمون على لفظ القرآن ومعناه ) الصواعق المرسلة 2/655
 
وقال الإمام ابن حجر رحمه الله : (  حصل لمسلم في كتابه حظٌ عظيمٌ مفرط لم يحصل لأحد مثله ، بحيث أن بعض الناس كان يفضله على صحيح محمد بن إسماعيل ، وذلك لما اختص به من جمع الطرق ، وجودة السياق ، والمحافظة على أداء الألفاظ كما هي من غير تقطيع ، ولا رواية بمعنى ، وقد نسج على منواله خلق عن النيسابوريين فلم يبلغوا شأوه ، وحفظت منهم أكثر من عشرين إماما ممن صنف المستخرج على مسلم فسبحان المعطي الوهاب ) تهذيب التهذيب 10/114
 
وقال العلامة ولي الله الدهلوي رحمه الله : ( توخى تجريد الصحاح المجمع عليها بين المحدثين المتصلة المرفوعة مما يستنبط منه السنة ، وأراد تقريبها إلى الأذهان ، وتسهيل الاستنباط منها ، فرتّب ترتيبا جيدا ، وجمع طرق كل حديث في موضع واحد ليتضح اختلاف المتون ، وتشعب الأسانيد أصرح ما يكون ، وجمع بين المختلفات ، فلم يدع لمن له معرفة بلسان العرب عذرا في الإعراض عن السنة إلى غيرها) كتاب الإنصاف في بيان سبب الإختلاف 292
 
فائدة في حكمة القبض في الصلاة :
 
قال القاضي أبو بكر بن العربي في شرح الترمذي: والحكمة فيه أي القبض عند علماء المعاني : ( الوقوف بهيئة الذلة والاستكانة بين يدي رب العزة ذي الجلال والإكرام كأنه إذا جمع يديه يقول: لا دفع ولا منع ولا حول أدعى ولا قوة، وها أنا في موقف الذلة فأسبغ علي فائض الرحمة ) أ.هـ.
 

الكاتب: زائر
التاريخ: 02/04/2010