الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد :
فأحاديث القبض لم تقصر روايتها على مسلم ، فهي في الصحيحين ، والسنن ، وقد اشتهرت ،
كما قال الناظـم :
والوضع للكفّ على الكفّ وردْ *** عن النبيّ الهاشميّ فلا يُردْ
رواه مالكٌ وأصحابُ السننْ *** ومسلمٌ مع البخاري فاعلمنْ
وفي البخاري والموطـأ : (كان الناس يؤمرون أنّ يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة ، قال أبو حازم: لا أعلمه إلاَّ ينمى ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ) ومعلوم أنّ هذا من المرفوع لأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم هو الآمر .
وإنمّـا السدل هو الذي لم يرد فيه حديث أصلا إلاَّ ما رواه الخصيب بن جحدر الكذاب الذي كذبه كبار أئمة الحديث مثل شعبة ، والقطان ، وغيرهما ، وحديثه عند الطبراني لاغير.
وقد قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله _ كما في فتح الباري _ عن القبض : ( لم يأت عن النبيّ - صلّى الله عليه وسلم - فيه خلاف , وهو قول الجمهور من الصحابة ، والتابعين , وهو الذي ذكره مالك في الموطأ , ولم يحك ابن المنذر ، وغيره عن مالك غيـره . وروى ابن القاسم عن مالك الإرسال )
وقال العلامة السنوسي في إيقاظ الوسنان : ( وقد لهج المتأخرون من المالكية بترجيح القول والرواية بمجرد وجودهما في المدونة ، ولو خالف الكتاب ، والسنة الصحيحة...كما في مسألة سدل اليدين في الصلاة ، وردّوا الأحاديث السالمة من المعارضة ، والنسخ ، وتركوها لأجل رواية ابن القاسم في المدونة عن مالك ، مع أن رواية القبض ثابتة عن مالك وأصحابه برواية ثقات أصحابه وغيرهم ) .اهـ.
وهذا هو التعصُّب المذهبي المذموم ، الذي تعاضدت نصوص الوحي على ذمّـه ، وحاربه أئمة السلف الصالح ، وعدُّوه من أعظم أسباب إنتشار البدع .
وأما ما ادّعاه بعض المتعصّبين للسدل في الصلاة من تعليل لحديث مسلم بثلاث علل فهي في غاية التهافت ولاتستحق الرد عليها ، إلاَّ ما ذكره في رواية علقمة عن أبيه وائل بن حجـر : ( أنـّه رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رفع يديه حين دخل في الصلاة فصفهما حيال أذنيه ، ثم التحف بثوبه ثم وضع يده اليمنى على اليسرى ) وزعم أنَّ علقمه لم يلق أباه ،
،
والصحيح أنَّـه لقيه ، وقد صرح بالسماع من أبيه في صحيح مسلم نفسه ، كتاب القسامة والمحاربين ، قال الإمام مسلم رحمه الله : حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبرى. حدثنا أبى. حدثنا أبو يونس عن سماك بن حرب، أنَّ علقمة بن وائل حدثه، أنّ أباه حدثه قال: إنى لقاعد مع النبىّ صلى الله عليه .. الحديث )
كما روى الإمام النسائي : أخبرنا سويد بن نصر قال : أنبأنا عبد الله بن المبارك ، عن قيس بن سليم العنبري ، قال : حدثني علقمة بن وائل ، قال : حدثني أبي ، قال : ( صليت خلف رسول الله فرأيته يرفع يديه إذا افتتح الصلاة وإذا ركع ، وإذا قال سمع الله لمن حمده هكذا ، وأشار قيس إلى نحو الأذنين ) ، وهذا إسناد ظاهر الصحة بحمد الله تعالى ، وفيه تصريح بالسماع .
والصحيح أنَّ الذي لم يسمع هو عبدالجبار أخو علقمة ، كما قال الإمام الترمذي في باب ما جاء في المرأة إذا أستكرهت على الزنـا : ( وعلقمة بن وائل بن حجر سمع من أبيه ، وهو أكبر من عبد الجبار بن وائل ، وعبد الجبارلم يسمع من أبيه) ، وكذا صرح بسماع علقمة من أبيه الإمام البخاري نفسه في التاريخ الكبير .
أما ما شغَّـب به من الإستدلال بما ذكره الإمام المازري أنَّ في صحيح مسلم أربعة عشر حديثا مقطوعة الأسانيد ، فهذا من عجائب تلاعب الهوى بالمتعصِّبين ، فإن الإمام المازري لم يقـل إنّ هذه الأحاديث ضعيفة ، لأنهـا لم تصح موصولة من طرق أخرى ،
وأحسن ما قيل في الجواب على ما ذكره المازري ، هـو ما قاله الإمام رشيد الدين النابلسي _ المتوفى 662هـ _ في كتابه غرر الفوائد المجموعة ، قال : ( الحمد لله حقّ حمده ، وصلواته وسلامه على محمد نبيّه ، وعبده ، وعلى آله وصحبه من بعده ، وبعد :
فهذه أحاديث مخرجة ، من صحيح الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري الحافظ ، ذكرها الإمام أبو عبدالله محمد بن علي التميمي المازري ، في كتابه المسمى بالمعلم ، ونص على أنها وقعت في كتاب مسلم ، مقطوعة الأسانيد، وعدها أربعة عشر حديثاً ، ونبه على أكثرها في مواضعها من كتابه ، إلاَّ أنه لم يبين صفة انقطاعها ، ولا ذكر من وصلها كلها من أئمة الرواة ، فربما توهـَّم الناظر في كتابه ممن ليس له عناية بالحديث ، ولا معرفة بجمع طرقـه، إنها من الأحاديث التي لا تتصل بوجه، ولا يصح الأحتجاج بها ، لانقطاعها ، وقد رأيت غير واحد يلهج بذكرها ، ويظنها على هذه الصفة ، وليس الأمر كذلك بل هي متصلة كلها والحمد لله من الوجوه الثابتة ، التي نوردها فيما بعد إن شاء الله ، وهذا القول الذي قاله الإمام أبو عبدالله المازري إنما أخذه فيما قيل من كلام الحافظ أبي علي الغساني الأندلسي ، فإنه جمعها قبله وعدها كذلك أيضاً إلا أنه نبـَّه على اتصال بعضها، ولم يستوعب ذلك في جميعها، ولعل المازري ، إنما ترك التنبيه على اتصالها ، لاكتفائه بما ذكره أبو علي الحافظ )
ثم العجب العجاب أنَّ الأحاديث التي أوردها المازري ليس فيها حديث علقمة بن وائل في شان القبض في الصلاة !
والحاصل أنَّ ما وقع في صحيح مسلم ممـَّا وُصف بالإنقطاع ، إنمّـا هو في ظاهر الأمر فحسـب ، كما قال الإمام أبو عمرو بن الصلاح في كتابه القيم : صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط ، وحمياته من الإسقاط والسقط ، قال : ( وقع في هذا الكتاب ، وفي كتاب البخاري ما صورته صورة الإنقطاع ، وليس ملتحقا بالإنقطاع في إخراج ما وقع فيه ذلك من حيز الصحيح إلى حيز الضعيف).
وفيما يلي بعض ما ذكره العلماء من مكانة صحيح مسلم في كتب السنة ، ردا على من لمز في مكانته ليطعن في سنة وضع اليمين على الشمال في الصلاة ، تعصَّبا لمذهبه عافانا الله تعالى من التعصُّـب .
قال ابن الصلاح في صيانة مسلم ما ملخصه : ص1217: ( هذا الكتاب ثاني كتاب صنف في صحيح الحديث ، ووسم به ، ووضع له خاصة سبق البخاري إلى ذلك ، وصلّى مسلم ، ثم لم يلحقهما لاحق ، وكتاباهما أصح ما صنفه المصنفون ... روينا عن مسلم رضي الله عنه قال صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة ، وبلغنا عن مكي بن عبدان ، وهو أحد حفاظ نيسابور ، قال: سمعت مسلم بن الحجاج يقول: لو أن أهل الحديث يكتبون مائتي سنة الحديث فمدارهم على هذا المسند ) ص 1217
وقال أيضا : ( جميع ما حكم مسلم بصحته من هذا الكتاب ؛ فهو مقطوع بصحته ، والعلم النظري حاصل بصحته في نفس الأمر ، ... وذلك لأنّ الأمة تلقّت ذلك بالقبول سوى من لا يعتد بخلافه ، ووفاقه في الإجماع ) ص 1222
وقال النووي شرحه على مسلم 1/122: ( ومن حقق نظره في صحيح مسلم رحمه الله واطلع على ما أورده في أسانيده ، وترتيبه وحسن سياقته ، وبديع طريقته من نفائس التحقيق ، وجواهر التدقيق ، وأنواع الورع ، والاحتياط والتحري في الرواية ، وتلخيص الطرق ، واختصارها وضبط متفرقها ، وانتشارها ، وكثرة إطلاعه ، واتساع روايته ، وغير ذلك مما فيه من المحاسن والأعجوبات ، واللطائف الظاهرات ، والخفيات علم أنه إمام لا يلحقه من بعد عصره ، وقل من يساويه بل يدانيه من أهل وقته ودهره ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم )
شرح مسلم للنووي 1/122
وقال في موضع آخر : ( اتفق العلماء ـ رحمهم الله ـ على أنّ أصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان البخاري ، ومسلم وتلقتهما الأمة بالقبول.. ـ إلى أن قال ـ وقد انفرد مسلم بفائدة حسنه ، وهي كونه أسهل متناولا ، من حيث أنه جعل لكلّ حديث موضعا واحدا يليق به جمع فيه طرقه التي ارتضاها ، وأورد فيه أسانيده المتعددة ، وألفاظه المختلفة ، فيسهل على الطالب النظر في وجهه ، واستثمارها ويحصل له الثقة بجميع ما أورده مسلم من طرقه ) 1/ 128_ 129
،
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( فإنّ الذي اتفق عليه أهل العلم أنه ليس بعد القرآن كتاب أصح من كتاب البخاري ، ومسلم ، وإنما كان هذان الكتابان كذلك ؛ لأنـَّه جرد فيهما الحديث الصحيح ) مجموع الفتاوى 20/321
وقال في موضع آخر : ( وأما كتب الحديث المعروفة مثل البخاري ومسلم ، فليس تحت أديم السماء كتاب أصح من البخاري ومسلم بعد القرآن ) 18 /74
وقال الإمام ابن القيم : ( وأهل الحديث متفقون على أحاديث الصحيحين وإن تنازعوا في أحاديث يسيرة منها جداً ، وهم متفقون على لفظها ، ومعناها كما اتفق المسلمون على لفظ القرآن ومعناه ) الصواعق المرسلة 2/655
وقال الإمام ابن حجر رحمه الله : ( حصل لمسلم في كتابه حظٌ عظيمٌ مفرط لم يحصل لأحد مثله ، بحيث أن بعض الناس كان يفضله على صحيح محمد بن إسماعيل ، وذلك لما اختص به من جمع الطرق ، وجودة السياق ، والمحافظة على أداء الألفاظ كما هي من غير تقطيع ، ولا رواية بمعنى ، وقد نسج على منواله خلق عن النيسابوريين فلم يبلغوا شأوه ، وحفظت منهم أكثر من عشرين إماما ممن صنف المستخرج على مسلم فسبحان المعطي الوهاب ) تهذيب التهذيب 10/114
وقال العلامة ولي الله الدهلوي رحمه الله : ( توخى تجريد الصحاح المجمع عليها بين المحدثين المتصلة المرفوعة مما يستنبط منه السنة ، وأراد تقريبها إلى الأذهان ، وتسهيل الاستنباط منها ، فرتّب ترتيبا جيدا ، وجمع طرق كل حديث في موضع واحد ليتضح اختلاف المتون ، وتشعب الأسانيد أصرح ما يكون ، وجمع بين المختلفات ، فلم يدع لمن له معرفة بلسان العرب عذرا في الإعراض عن السنة إلى غيرها) كتاب الإنصاف في بيان سبب الإختلاف 292
فائدة في حكمة القبض في الصلاة :
قال القاضي أبو بكر بن العربي في شرح الترمذي: والحكمة فيه أي القبض عند علماء المعاني : ( الوقوف بهيئة الذلة والاستكانة بين يدي رب العزة ذي الجلال والإكرام كأنه إذا جمع يديه يقول: لا دفع ولا منع ولا حول أدعى ولا قوة، وها أنا في موقف الذلة فأسبغ علي فائض الرحمة ) أ.هـ.