الرد على الخوارج؟!

 

السؤال:

سؤال ملخص من الموقــع من عدة أسئلة وردت : ما قولكم في طائفة تستحل دماء المسلمين تذرعا بأن الغالب عليهم الرضا بأحكام دار الكفر التي استولى عليها الكفار مثل العراق او أفغانستان ـ هذا على سبيل التمثيل فحسب ـ أو غيرها من بلاد الإسلام التي ظهرت فيها أحكام الكفر ، وأن الأصل في أهل هذه الديار الكفر ، فيفجرون بهم ، ويستحلون دماءهم وأموالهم ، ويقولون من يعمل في الوظائف كافر من باب أولى ، إ ذ عمله قبول بظاهر الحال ، ورضا بالكفر بالفعال ، وهي أبلغ من الأقوال ، وهم مع ذلك لايجاهدون لتحقيق مشروع أو الوصول إلى أهداف محددة ، بل يزعمون أنهم إنما يجرون أحكام دار الكفر ، امتثالا للشرع ، فيستولون على الأموال ويهريقون الدماء ، أشبه باللصوص وقطاع الطريق ، ولايحصل بقتالهم عاقبة محمودة ، ولا مصلحة موجودة ، فنرجوا بيان حالهم ، والرد على زعمهم ومقالهم بارك الله فيكم ؟

**************

جواب الشيخ:

 

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد آله وصحبه وبعد :

 
ديار المسلمين التي حكمت بأحكام الكفر ، بأن غزاها الكفّار فأظهروا فيها أحكامهم ،  و أهلها مسلمون ، كما في فلسطين ، وأفغانستان ، والعراق ـ وكذا كلّ بلد علت فيها أحكام الكفّار وإن لم يظهروا عليها بالعساكر ـ هي ديار مركبّة جامعة للوصفين وصف دار الكفر من جهة الأحكام الجارية , ووصف دار الإسلام من جهة أهلها , فيحكم على من فيها على وفق حاله .


فمن كان من أهل تلك البلاد من المسلمين ، من أهل الشهادتين ، فالأصل أنه مسلم معصوم الدم والمال ، دمه وماله وعرضه حرام ، لا يستحل منه شيء من ذلك ، إلا بمقتضى مادل عليه الشــرع ، وإذا وقع في مكفر مما يعذر مثله بجهله ، فلا يُكفـّر عينا حتى تقام عليه الحجة ، وأما الكافر المحتل ومن يجندهم معه ، ومن يكون في صفه يقاتل المسلمين أو يكون عينا أو عونا عليهم ، فإنهم يقاتلــون ،كما يقاتل المحتلون.

 

وينبغي التنبه إلى أن المال الذي أصـله فيء أرض المسلمين  في بلادهم التي تحت سلطان حاكم بغير الشرع ، هـو مال المسلمين ، وإن كان عليه يدُ عاديـة ، فيجب أن تنزع وتعاد إلى يد عادلة ، وليس هـو مالا مستباحا ، وليس له حكم الغنيمة ، حتى لو قُدر على عزل الحاكم بالقوة .


وقد سبق سؤال عن دار الكفر ودار الإسلام ، جاء فيه نقلا عن بعض العلماء قولــه : (


وأما ما يعتقده بعض الجهال ، أنّ بلاد المسلمين التي لاتحكم بأحكام الشريعة في الغالب ،  يجب إجراء أحكام دار الكفر المذكورة في باب الجهاد على من فيها ، إذا لم يُعلن أهلها البراءة من تلك الدار ، أو لم يزايلوا ذاك الجوار ، لأنهـم ـ كما يزعم هؤلاء ـ كفّار تستباح دماؤهم وأموالهم !

 

فهؤلاء جهال ، لبّس عليهم الشيطان ، فأوردهم المهالك ، أعاذنا الله من ضلال العماية ،وشر الغواية ، غير أني لا أعلم اليوم لهؤلاء طائفة معروفة ، لامجاهدة ، ولاقاعدة .


غير أنه قد تظهر أحيانا في أرض الجهاد ، هذه الطائفة الغالية ، فهم ينزعون إلى غلوّ مركَّب على جهل ، وهي ظاهرة تفرزها طبيعة التعاطي في أوقات وأماكن الجهاد ، فهو تعاطٍ عنيف يتولّد من القوة الغضبية ، في حال ثورانها لاسيما إن وافق ذلك جهلا وحداثة سن ، كما جاء وصف الخوارج في بعض النصوص .

 

ولهذا لما أمرنـا الله تعالى أن نضع القوة الغضبيّة في مرضاته ، ليعذّب بها الكافرين ، ويخزيهم ، ويشف صدور قوم مؤمنين ، ويذهب غيظ قلوبهـم ، نبّه أهل الجهاد ، أن يراعوا دماء المسلمين في حال القتال ، إذ قال : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) .


وحذّر تعالى أن يسترسل المجاهــــد مع هذه القوة الغضبيّة ، فتخرجه عن الحدّ المشروع ، حتى لو كانت الدوافع دينيّة إيمانية ، كما قال (


فإنّ الغضب الديني إنْ وضع في غير ما أمر الله أن يوضع ، يعود بالنقض على أهداف الجهاد ، ولهذا كرّر الله تعالى وصف الذين يجنّدهم لنصر دينه ، بأنهم يجمعون بين الذلّة على المؤمنين فهــم رحماء بالمسلمين ، والعزة والغلظة والشدة على الكافرين ،وذلك لحفظ الميزان ، والله تعالى أنزل الكتاب بالحق والميزان .

 

كما في آية المائدة السابقة.


وقوله تعالى :  (


 

وكذلك كلّ اعتقاد ، أو قول ، أو عمل ، أو حال ، يجب أن ينقاد للشرع المنزل ، ويجب أن يُجعل الهوى كلّه ، تبعا لما جاء به الرسول المبجّل ، ذلك أن الإنسان ظلومٌ جهول ، جهول لا يهتدي لما فيه مصلحته إلا بهدى الله ، كما في الحديث المتفق عليه "كلكم ضال إلا من هديته " ، ظلوم لا يضع الأمور في موضعها الصحيح ، مالم يكن له عون من الله .


إذا لم يكن عون من الله للفتى ** فأول ما يجني عليه اجتهـــــاده


ومعلوم أن حركة التغير في المجتمعات ، إنما هي نتاج حركة قوى النفس الإنسانية ، فأحيانا تتغلب القوة الغضبيّة على بعض النفوس ويزيدها تأججا صعوبة أحوال الزمان ، فتجتمع النفوس المتشاكلة بذلك ، ويختلط مع ذلك الجهل الذي يقتضي الخروج عن ضوابط الشرع ، فيتولّـد من ذلك كله إفراطٌ مذموم ، كما تولدت الخوارج في زمن عليّ رضي الله عنه ، ولما كانوا قد سلَّطوا شرهم على أهل الإسلام ، دون أهل الكفر ، على الضد ممّا أمر الله أن توضع القوة الغضبة الإنسانية فيه ،

 

 قام الخليفة الراشد علي رضي الله عنه ـ امتثالا لأمر صلى الله عليه وسلم ، كمــا بشّره بما سيُكتب له من الثواب بقتالهم ـ قام عليهم بالقتال ، لأن شرّهم الباطل يندفع بمثل وسيلته بالحق ، فأبطل غضبهم غير المشروع ، بالغضب المشروع ، وقد صاروا من شر الفرق في تاريخ الإسلام .


ومعلوم أن الأصل في أهل الشهادتين الإسلام ، ولا يجوز تكفيــر من أتى بهما ، مالم يُعلم صدور موجب الردة منه ، وبعد البيان فيما يُعذر الجاهل في مثله ، هذا لاخلاف فيه بيـن أهل العلم .


وحتى المنتسبين من أهل الشهادتين إلى الفرق الضالة ، يبقى أن الأصل فيهم الإسلام مالم يكن انتسابهم إلى طوائف لاينتسب إليها إلاّ من لا يبقى معه أصـل الشهادتين كالباطنية ، وغيرهم .


وهؤلاء الجهال الذين يجعلون الأصل في أهل الشهادتين أنهم كفار ، في البلاد التي تكون أحكام الكفار فيها هي الظاهرة ، قد يكونون مدسوسين في صفوف أهل الإسلام ، وربما تُستثمر ظاهرتهم ، وتُضخّم ، بهدف تشويه صورة الجهاد ، لأنهم لا يعلمون أن الجهاد مشروع يحقق أهدافا يجب أن تصبّ في النهاية في مصلحة الإسلام والمسلمين ، وأنه إنْ لم يكن كذلك فلا يُشرع ،

 

 وإنما ينطلقون من فهم خاطىء للشرع ،  وحماسة غير موجّهه بـه .

 

وربّما انطلقوا من أصول عامة ، وقواعد شرعية كلية ، فيستغلونها أبشع استغلال ، حتى يتحول الجهاد إلى مشروع لصوصيّة ، وإهراق للدماء بغير حق ، فيفسدون في الأرض ولا يصلحون ، فيفجّرون دور (السينما) وأماكن الفساد ـ مثلا ـ على من فيها ، ويستحلّون قتل كــلّ من يعمل في الدولة الخارجة عن أحكام الشرع ، حتى لو كان لا يقاتل المجاهدين ولا يظاهر عليهم أحداً ، قد استحوذ عليهم الشيطان فقادهم بأهواءهم إلى إبطال أهداف الجهاد المشروع .


ذلك أن الجهاد إنما شرع لتكون عاقبته رحمة ، وإنما أبيح فيه قتل الأنفس لأنّّه لابد منــه ، وليس لأنه مقصود لذاتـــه ، فلاسبيل إلى الوصول إلى الرحمة العامّة التي لاتحصل إلا باستعلاء أحكام أرحم الراحمين الذي سبقت رحمته غضبه ، لاسبيل إليها إلا بالقتال أحيانا ، ولهذا لو أسلم الناس ، أو رضوا بالجزية مقرين باستعلاء الإسلام ، حرُم قتالهم ، ولهذا وصف الله تعالى رسالة محمد بأنها "


ولهذا فإن المسلمين في الجهــــــاد إنما يقتلون من يقاتلهم إذا أرادوا إظهـار دين الله ـ إما بجهاد الطلب إن أردنا إظهار دين الله في الأرض بغزو بلاد الكفار ، أو بجهاد الدفع إذا أردنا دفع ظهور دين الكفار في بلاد الإسلام ـ فلا نقتل كلّ كافر مطلقا ، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية :


"


 

وبهذا كلّه يُعلم أنه لا يُشرع قتل حتى الكافر ، مالم يكن ذلك في جهاد مشروع يتحقق به مصلحة عامة ، هي في عاقبتها خير ورحمة للمسلمين والعالمين ، ولهذا أمر الله تعالى المؤمنين أن يكفوا أيديهم في العهد المكي ، لأن الجهاد حينئذ لا يحقــق مصلحة أهل الإسلام ، بل يحصل به ضد ذلك ، فلمّا تغيرت الأحوال وصار الجهاد يحقق أهدافه ، أُمر النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون به .

 

وإذا كان الكفار الأصليون لايُقتلون مطلقا  ، لأنْ القتل غير مقصود لذاته ، إنما يقاتلون إذا قاتلونا في حال قيامنا بإظهار دين الله في الأرض ، فكيف بمن يُعمل سيفه بالأمّة يقتل برها وفاجرها ،ولايتحاشى من مؤمنها ، ولايعذر جاهلا ،ولا يقبل من ضال تأويلا سائغا ؟!

 

هذا والحمد لله الذي جعل الجهاد في سبيله اليوم ، في طوائف مستبصرة ، متبعة لكتاب والسنة ، منقادة للشريعة ، جعلت بأسها في نحور الكفار ، فأمن من بأسها المسلمون ، فهم أذلة على المؤمنين ، أعزة على الكافرين ، أشداء على الكفار ، رحماء بينهم .

 

والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .   

وذلك أن الله تعالى أباح من قتل النفوس ما يحتاج إليه في صلاح الخلق كما قال تعالى : { والفتنة أكبر من القتل } ، أي أن القتل وإن كان فيه شر وفساد ففي فتنة الكفار من الشر والفساد ما هو أكبر منه فمن لم يمنع المسلمين من إقامة دين لله لم تكن مضرة كفره إلا على نفسه ؛ ولهذا قال الفقهاء : إن الداعية إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة يعاقب بما لا يعاقب به الساكت ، وجاء في الحديث : { أن الخطيئة إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها ؛ ولكن إذا ظهرت فلم تنكر ضــرت العامة } . ولهذا أوجبت الشريعة قتال الكفار ولم توجب قتل المقدور عليهم منهم ؛ بل إذا أسر الرجل منهم في القتال أو غير القتال مثل أن تلقيه السفينة إلينا أو يضل الطريق أو يؤخذ بحيلة فإنه يفعل فيه الإمام الأصلح من قتله أو استعباده أو المن عليه أو مفاداته بمال أو نفس عند أكثر الفقهاء كما دل عليه الكتاب والسنة . وإن كان من الفقهاء من يرى المن عليه ومفاداته منسوخا " مجموع الفتاوى 28/ 345ـ 355
لأن القتال هو لمن يقاتلنا إذا أردنا إظهار دين الله كما قال الله تعالى : { وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين } وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم { أنه مر على امرأة مقتولة في بعض مغازيه قد وقف عليها الناس ،  فقال : ما كانت هذه لتقاتل } { وقال لأحدهم : الحق خالدا فقل له : لا تقتلوا ذرية ولا عسيفا } ، وفيهما أيضا عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : { لا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا صغيرا ولا امرأة } .
رَحْمَةً للعَالميِنْ " ، وفي الحديــث " ألا تسألوني مما ضحكت؟ قلنا : يا رسول الله مما ضحكت ؟ قال : رأيت ناسا من أمتي يساقون إلى الجنة في السلاسل ما أكرهها إليهـم ! قلنا من هم ؟ قال : قوم من العجم يسبيهم المهاجرون فيدخلونهم في الإسلام " رواه أبو نعيم في أخبار اصبهان والبزار في مسنده .
وفي الحديث : ( من خرج من الطاعة ، وفارق الجماعة ، فمات ؛ مات ميتة جاهلية ، ومن قاتل تحت راية عمية ، يغضب لعصبة ، أو يدعو إلى عصبة ، أو ينصر عصبة ، فقتل ؛ فقتلة جاهلية ، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ، ولا يتحاشى من مؤمنها ، ولا يفي لذي عهد عهده ؛ فليس مني ولست منه ) خرجه مسلم والنسائي وغيرهما .
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا * مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا )
وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ) .
وأما البلد التي يحكم عليها بأنها بلد كفر ، فقال ابن مفلح : وكل دار غلب عليها أحكام المسلمين فدار إسلام ، وأن غلب عليها أحكام الكفر فدار كفر ، ولا دار غيرهما ، وقال الشيخ تقي الدين ـ يعني ابن تيميه ـ وسئل عن ماردين هل هي دار حرب أم دار إسلام فقال هي مركبة فيها المعنيان ، ليست بمنزلة دار الإسلام التي تجري فيها أحكام الإسلام لكون جنودها مسلمين ، ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار ، بل هي قسم ثالث ، يعامل المسلم فيها بما يستحقه ويعامل الخارج من شريعة الإسلام بما يستحقه ) . نقلا عن الدرر السنيـــة ( 7/353) .

الكاتب: سائل
التاريخ: 13/12/2006