فضيلة الشيخ هل يجوز للسلطة منع الفتيا وقصرها على من تعيينه السلطة ، وما الفرق بين هذا وبين منع الجهال والمفسدين من الفتيا بغير علم ؟!! |
|
الحمد لله ، والصلاة ، والسلام على نبيّنـا محمّد ، وعلى آله ، وصحبه ، وبعد :
فقد أجمـعَ العلماء على أنَّ الفتوى من المتأهل فرضٌ عليه ، لايجوز له كتمهـا ، ومِنْ كتـمِها ، تركُ إعلانها للعموم في المسائل العامـّة عند حاجة الناس إليها ، لاسيما في النوازل ، خاصة تلك التي تتعلّق برسالة الأمـّة العالميـة ، والتحديـّات التي تواجههـا، وأهـم ذلك في حالة ووقـوع بلاد للمسلمين تحت الإحــتلال الكافر .
وكتـم الفتوى في هذه الأحـوال من كتم الهدى الذي جاء به خاتـم النبييّن ، وسيـّد المرسلين ، صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وقـدَّ توعد الله كاتـم العـلم بأشـدّ الوعيد ، وهـو من أعظم الآثام ، وأشـدّ الإجرام ، ومن الصـدّ عن سبيل الله تعالى الذي جعله الله تعالى قريـنا للكفر في غير موضع في القرآن العظيم .
وقال الحقُّ سبحانه : ( إنَّ الذينَ يكتموُنَ ما أنزَلنا من البيّناتِ والهدُى من بعدِ ما بيّناهُ للنّاس في الكتابِ ، أولئكَ يلعنهمُ الله ، ويلعنهمُ اللاّعنونَ )
قال الإمام ابن كثير رحمه الله : ( هذا وعيد شديد لمن كتم ما جاءت به الرسل من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة ، والهدى النافع للقلوب ، من بعد ما بيّنه الله تعالى لعباده في كتبه ، التي أنزلها على رسله ... فكما أنّ العالم يستغفر له كلُّ شيء، حتى الحوت في الماء ، والطير في الهواء ، فهؤلاء بخلاف العلماء الذين يكتمون فيلعنهم الله ، ويلعنهم اللاّعنون ، وقد ورد في الحديث المسند من طرق يشدّ بعضها بعضا، عن أبي هريـرة وغيره : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (من سُئل عن علم فكتمه ، أُلجم يوم القيامة بلجام من نار) ، والذي في الصحيحين عـن أبي هريـرة أنـه قال : لولا آية في كتاب الله ما حدثت أحدا شيئـا : ( إنّ الذين يكتمون ما أنزلنا من البيّنـات ، والهدى ) أ.هـ.
ولهذا لايحـقّ لأيِّ سلطـة أن تمنع العلماء من أداء ما افترض الله عليهم ، وذلك كما لايجوز منع الناس من الصلاة ، والصيام ، بل قد ذكر العلماء أنه حتّى السلطة الشرعيـّة الحاكمة بالشريعـة ، إذا تبنـَّت مذهبا ، لم يجز لها أن تمنع العلماء المخالفين من الفتيا بمذاهبهم .
ولما سُئـل شيخ الإسلام هل يجوز للحاكم منع الناس من الفتيا بخلاف مذهبه في مسألة ذكرها ـ وهي نوع من أنواع العمل التجاري ـ قال رحمه الله :
( ليس له منع الناس من مثل ذلك ، ولا من نظائره مما يسوغ فيه الاجتهاد ، وليس معه بالمنع نص من كتاب ، ولا سنة ، ولا إجماع ، ولا ما هو في معنى ذلك ، لا سيما وأكثر العلماء على جواز مثل ذلك ، وهو مما يعمل به عامة المسلمين في عامة الأمصار ، وهذا كما أن الحاكم ليس له أن ينقض حكم غيره في مثل هذه المسائل ، ولا للعالم والمفتي أن يلزم الناس باتباعه في مثل هذه المسائل .
ولهذا لما استشار الرشيد مالكا أن يحمل الناس على ( موطئه ) في مثل هذه المسائل ، منعه من ذلك ، وقال إنَّ أصحاب رسول الله تفرقوا في الأمصار ، وقد أخذ كلُّ قوم من العلم ما بلغهم ، وصنف رجل كتابا في الاختلاف ، فقال أحمد لا تسمّه ( كتاب الإختلاف ) ولكن سمـّه ( كتاب السنة ) .
ولهذا كان بعض العلماء يقول إجماعهم حجة قاطعة ، واختلافهم رحمة واسعة ، وكان عمر بن عبد العزيز يقول : ما يسرُّني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا ، لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجلٌ كان ضالاّ ، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا ، ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة ، وكذلك قال غير مالك من الأئمة : ليس للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه ) أ.هـ.
وقال في موضع آخر مبيِّنـا أنَّ الحاكم حتى لو كان عالما مجتهـدا ، ليس لـه منع من تأهل للفتيـا من القيام بواجبـه ، لأنَّ قول الحاكم حينئذٍ لايعدو كونـه قول أحـد العلماء في المسألة ، أما إن كان مقلـدا ، فأصـلا هو لادخل له في هذه الأمـور !
كما بيـَّن أنَّ التأهـُّل للفتوى لايتحـدَّد بالتنصيب من السلطة !
قال شيخ الإسلام : ( بل الحاكم فيما تنازع فيه علماء المسلمين ، أو أجمعوا عليه ، قوله في ذلك كقول آحاد العلماء إن كان عالمـا ، وإن كان مقلدا كان بمنزلة العامة المقلدين ، والمنصب ، والولاية ، لا يجعل من ليس عالما مجتهدا ، عالما مجتهدا ، ولو كان الكلام في العلم ، والدين ، بالولاية ، والمنصب ، لكان الخليفة والسلطان أحق بالكلام في العلم و الدين ، وبأن يستفتيه الناس ، ويرجعوا إليه فيما أشكل عليهم في العلم والدين ) أ.هـ
وقال في موضع آخــر مبيّنـا حكم منع العالم من الفتيا بمسألة خالف فيه الجمهـور مستـدلاّ بما يستدل به المجتهـدون : ( ولا يجوز بإتفاق الأئمة الأربعـة ، نقض حكمه إذا حكم ، ولا منعه من الحكم به ، ولا من الفتيا به ، ولا منع أحد من تقليده ، ومن قال : إنه يسـوغ المنع من ذلك فقد خالف إجماع الأئمة الأربعة ، بل خالف إجماع المسلمين مع مخالفته لله ورسوله ) أ.هـ .
هذا .. ومن التلاعب بالألفاظ ، ومن مكـر السـوء الذي يخفـي وراءه ما يُخفي ، خلط الأوراق بين هذه المسألة ، ومسألة منـع الجاهل الذي يفتي بغير علم ، أو المفتي الذي أضلَّه الله علـى علم ، فيفتي بهواه ، أو هوى المستفتي سواء السلطة وغيرها .
فهؤلاء الذين يتطاولون على مثل هذه الفتاوى معروفون بأعيانهم ، قـد جعلوا أنفسهم مطيَّة لمشروع المستعمر الجديد ، وتدور فتاواهم حول تجريم مقاومة هذا المشروع الصهيوصليبي ، بل إضفاء الشرعية على موالاته ، والسيـر في ركابه ، حتى إنَّ بعضهم أفتى بجواز القتال مع الجيش الأمريكي !! ، وبعضهم أفتى بالإلتحاق بشرطة عباس ـ وجعلها سلطة شرعية ـ التي يدربها الصهاينة لقتل المقاومين في فلسطين !
كمـا يفتون بتحريـم الجهـاد الإسلامـي ، وتسميتـه ( إرهابا ) وتسمية داعميـه ( إرهابيين ) ! ، وبتمرير مشاريـع التغريب والتخريب في بلاد الإسلام ، مثل الإختلاط في التعليـم ، ومؤسسات الإعلام الماجـن الذي يسخـر من قيم الأمـة ، ويجتال أخلاقها ، وغيرها من المشاريـع.
فهؤلاء تحديـداً هم الذين يجب الحجر عليهم ، بل إنزال العقوبة المنكِّلة بهم .
ولو كانت الأنظمة العربية تريد خيـراً بهذه الأمـَّة لشجَّعـت كلَّ وسائل ردَّ الهجمة الصهيوصليبية على أمّتنـا التي تحتل أرضها في أفغانسـتان ، والعراق ، والصومال ، وغيـرها ، وقبل ذلك كلّه في فلسطين ، وتسفك دماء شعوب الأمـّة ، وتسرق ثرواتها ، وتنهـب مقدراتها ، وتهيمـن على قرارها السياسي ، وتسعى بكلِّ سبيل لإبقاء في ركب التخلّف ، ومـنع تفوقها الحضـاري.
وعلى رأس هذه الوسائـل المؤثرة جداً في صدّ هذه الهجمـة ، تأتي رموز الفتوى في عالمنا الإسلامي ، ومؤسسات الفتوى فيه .
فلو كانت هذه الأنظمة تريد لهـذه الأمـّة عِـزَّا وخيـرا ، ولـو كانت تؤمن بقضايا أمـتنا ، وتعيشها بوجدانهـا محنـة الأمـّة ، لأوعـزت إلى المفتين ، والعلماء ، والدعـاة ، والمصلحين ، التركيز على جهود دحـر الهجوم الغربي على أمّتنـا ، حتى يتمّ تطهيـر بلاد الإسلام من رجسها ، وعلى رأس هذه القائمـة يأتي دعم صمود الجهاد الفلسطيني ، وفك الحصـار عن غـزة .
وكذلك التركيز على حفظ هوية الأمة ، وأخلاقها ، وثقافتها الإسلامية ، واستقلال إرادتها السياسية ، ودعم جهود توحيـدها ، وإعادة خلافتها .
والواقـع أنَّ حالهم على العكس من هذا تمامـا ، والعجيب أنهـم يفتحون الحرية لكلِّ شيءٍ حتى الفساد الأخلاقي ، والسخرية بالدين ! وحوار الأديان ! ويحجرون على الفتوى بما ينير طريق الأمـة للنهوض والتخلص من التبعية والإستبداد !
ولاريـب أنَّ مَـنْ لايزال يجهل أنَّ فساد مؤسسات الفتوى ، وغياب دورها الفاعل في إنهاض الأمـّة في مواجهـة أعدائها ، إنما هو بسبب تلاعب هذه الأنظمة السياسية بهذه المؤسسات ، وتوظيفها لأطماع السلطة ، وتسخيرها غطاءً يمرر ظلم السلطـة ، وفسادها ، حتى صارت تلك المؤسسات الحكومية سخرية الساخرين لكونـها شريكة في جريـرة ما يجري على الأمّـة من بلايـا !!
من لايزال يجهل هذا فهو من الذين يجب الحجر عليهم في الفتوى أصـلا
والله المستعان
وهو حسبنا ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصيـر .
الكاتب: زائر
التاريخ: 16/08/2010