وهو قول جمهور العلماء ، واستدلوا بالأحاديث التي تنص على تحريم بيع الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، إلاّ مثلا بمثل ، يـداً بيد ، وهي تزيد على سبعة عشر حديثا، حتى قيـل إنها متواترة.
قال ابن عبد البر في الكافي في فقه أهل المدينة : _(والسنة المجتمع عليها أنه لا يباع شيء من الذهب عينا كان ، أو تبرا ، أو مصوغا ، أونقرة ، ورديئا بشيء من الذهب ، إلاّ مثلا بمثل يدا بيد ، وكذلك الفضة عينها ، ومصوغها ، وتبرها ، والبيضاء منها ، والسوداء ، والجيدة ، والرديئة سواء ، لا يباع بعضها ببعض إلاَّ مثلا بمثل يدا بيد ، من زاد ، أو نقص في شيء من ذلك كله ، أو أدخله نظرة ، فقد أكل الربا) اهـ ص 302
و قال الشافعي في الأم: (ولا خير في أن يصارف الرجل الصائغ الفضة بالحليّ الفضة المعمولة ، ويعطيه إجارته ، لأنَّ هذا الورق بالورق متفاضل).
وقال ابن هبيرة في الإفصاح: ( أجمع المسلمون على أنه لايجوز بيع الذهب بالذهب منفردا والورق بالورق منفردا ، تبرها ، ومضروبها ، وحليها ، إلاّ مثلا بمثل، وزنا بوزن ، يدا بيد ، وأنه لايباع شيء منها غائب بناجز).1/212
القول الثاني: يجـوز ذلك ، لأنَّ نصوص التحريم لاتتناول الذهب ، أو الفضة المصوغة ، فهي بالصياغة ، قـد أشبهت السـلع فأخذت حكمها .
وهذا القـول نقـل عن معاوية رضي الله عنه ، والحسن ، وإبراهيم ، والشعبي ، كما في مصنف عبد الرزاق 8/69 ،وكما جامع الأصول لابن الأثـير ، والجامع في أصول الربا ص: 160.
وهو اختيار جماعة كبيرة من الحنابلة كما ذكر ابن قدامة في المغنـي 4/29 .
وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ، كما في تفسير آيات أشكلت 2/622، وأما في اختيارات البعـلي فقـال : (ويجوز بيع المصوغ من الذهب والفضة بجنسه من غير اشتراط التماثل ، ويجعل الزائد في مقابل الصنعـة) الاختيارات للبعلي ص 112
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين2 /141: ( إنّ الحلية المباحة صارت بالصنعة المباحة من جنس الثياب والسلع ، لا من جنس الأثمان ، ولهذا لم تجب فيها الزكاة ، فلا يجري الربا بينهما وبين الأثمان، كما لا يجري بين الأثمان ، وبين سائر السلع ، وإن كانت من غير جنسها ، فإن هذه الصناعة قد خرجت من مقصود الأثمان ، وأعدت للتجارة ، فلا محذور في بيعها بجنسها، ولا يداخلها "إما أن تقضي وإما أن تربي" إلاّ كما يدخل في سائر السلع إذا بيعت بالثمن المؤجل ) أ.هـ.
وهذا يجري أيضا في غير الذهب والفضة ، كما قال ابن رشد في بداية المجتـهد 2/103: ( اختلفوا من هذا الباب فيما تدخله الصنعة، مما أصله منع الربا فيه، مثل الخبز بالخبز، فقال أبو حنيفة: لابأس ببيع ذلك متفاضلا ومتماثلا ، لأنه قد خرج بالصنعة عن الجنس الذي فيه الربا )
وقال ابن مفلح4/149: (إن ماخرج عن القوت بالصنعة فليس بربوي).
ومما ذكروه من الدليل على صحة هذا القول ، أن العاقل لا يبيع الصياغة بوزنها ، فإنـّه سفه، وإضاعة للصنعة ، والشارع لا يقول لصاحب هذه الصياغة : بع هذا المصوغ بوزنه واخسر صياغتك ، ولا يقول له : لا تعمل هذه الصياغة ، واتركها ، ولا يقول له: تحيل على بيع المصوغ ، بأكثر من وزنه بأنواع الحيل ، فالشارع أحكم من أن يلزم الأمة بذلك ، والشريعة لاتأتي به ، ولا تأتي بالمنع من بيع ذلك ، وشرائه لحاجة الناس إليه ، فلم يبق إلاَّ أن يقال: لا يجوز بيعها بجنسها البتة ، بل يبيعها بجنس آخر، وفي هذا من الحرج ، والعسر ، والمشقة ، ما تتّقيـه الشريعة ، فإن أكثر الناس عندهم ذهب يشترون به مايحتاجون إليه من ذلك ، والبائع لا يسمح ببيعه ببر وشعير وثياب ،
وتكليف الاستصناع لكلّ من احتاج إليه إما متعذراً ، أو متعسراً ، والحيل باطلة في الشرع ، وقد جوز الشارع بيع الرطب بالتمر لشهوة الرطب ، وأين هذا من الحاجة إلى بيع المصوغ الذي تدعو الحاجة إلى بيعه وشرائه؟
فلم يبق إلاّ جواز بيعه كما تباع السلع ، فلو لم يجز بيعه بالدراهم فسدت مصالح الناس ، والنصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيها ما هو صريح في المنع .
وإذا قلنا بأن الذهب المصاغ يباع كالسلع ، فإنَّ مقتضى ذلك جواز بيعه بذهب أو فضة نسيئة أيضا ،كما قال شيخ الإسلام أيضا : ( يجوز بيع المصوغ من الذهب والفضة بجنسه ، من غير اشتراط التماثل، ويجعل الزائد في مقابـل الصنعة ،سواء كان البيع حالاّ ، أو مؤجـلا ، مالم يقصـد كونه ثمنا ) .
وهذا هو أصح القولين في الدليل ، مع أنَّ الأول أحـوط ، وعليه الأكثـر ، وكان يفتي به الشيخ العلامة محمد العثيمين رحمه الله ، وكنـت أفتي به برهـة من الزمن .
والله أعلم