هل الأرض كروية الشكل ؟؟

 

السؤال:

في البدء جزاكم الله خيراً على هذا العمل .
وسؤالي هو عن الأرض وهل القول بأن الأرض كرة فيه ما يعارض آيات وأحاديث مثلا هنالك كثير من الآيات في سياق أن الأرض مستوية ( والأرض ممدناها فنعم المهادون ) الخ
أرجو أن تعطيني رداً شافياً في ذلك لأنه في الحقيقة الواحد محتار ، ثم يستلزم من إثبات دائريتها بعض الأسئلة في العلو وخلافه .
وجزاكم الله خيراً

*****************

جواب الشيخ:

الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد ـ

لا شك أن الارض كرية الشكل ، وكذلك السموات فوقها ، وفوق بعضها البعض هي أفلاك كرية الشكل ، ولشيخ الاسلام ابن تيمية بيان واضح حول هذه المسألة ، وإيضاح أن حقيقة كرية شكل الارض ، لاتتعارض مع ما ورد في نصوص الشرع من أثبات علو الله تعالى ، وأن الداعي يرفع يديه إلى الاعلى عند الدعاء ، قال رحمه الله في الرسالة العرشية :


فيجب أن يعلم أن العالم العلوي والسفلي بالنسبة إلى الخالق تعالى في غاية الصغر كما قال تعالى : { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } .

وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { يقبض الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول : أنا الملك أين ملوك الأرض ؟ } .

وفي الصحيحين - واللفظ لمسلم - عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { يقبض الله تبارك وتعالى الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول : أنا الملك أين ملوك الأرض ؟ } .

وفي الصحيحين - واللفظ لمسلم - عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول : أنا الملك ؛ أين الجبارون ؛ أين المتكبرون ؟ ثم يطوي الأرضين بشماله ثم يقول : أنا الملك ؛ أين الجبارون ؛ أين المتكبرون ؟ } وفي لفظ في الصحيح عن عبد الله بن مقسم أنه نظر إلى عبد الله بن عمر كيف يحكي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { يأخذ الله سمواته وأرضه بيده ويقول أنا الملك ويقبض أصابعه ويبسطها أنا الملك حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه حتى إني أقول أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم } وفي لفظ { قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وهو يقول : يأخذ الجبار سمواته وأرضه .

وقبض بيده وجعل يقبضها ويبسطها ويقول : أنا الرحمن ؛ أنا الملك ؛ أنا القدوس ؛ أنا السلام ؛ أنا المؤمن ؛ أنا المهيمن ؛ أنا العزيز ؛ أنا الجبار ؛ أنا المتكبر ؛ أنا الذي بدأت الدنيا ولم تكن شيئا ؛ أنا الذي أعدتها . أين المتكبرون ؟ أين الجبارون : } وفي لفظ { أين الجبارون أين المتكبرون ويميل رسول الله صلى الله عليه وسلم على يمينه وعلى شماله حتى نظرت إلى المنبر يتحرك من أسفل شيء منه حتى إني لأقول أساقط هو برسول الله صلى الله عليه وسلم } والحديث مروي في الصحيح والمسانيد وغيرها بألفاظ يصدق بعضها بعضا ؛ وفي بعض ألفاظه قال : قرأ على المنبر : { والأرض جميعا قبضته يوم القيامة } الآية . قال : { مطوية في كفه يرمي بها كما يرمي الغلام بالكرة } وفي لفظ : { يأخذ الجبار سمواته وأرضه بيده فيجعلها في كفه ثم يقول بهما هكذا كما تقول الصبيان بالكرة . أنا الله الواحد } . وقال ابن عباس : " يقبض الله عليهما فما ترى طرفاهما بيده " وفي لفظ عنه : " ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم " وهذه الآثار معروفة في كتب الحديث . وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال : { أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود فقال : يا محمد إن الله يجعل السموات على إصبع والأرضين على إصبع والجبال على إصبع ؛ والماء والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع ؛ فيهزهن .

فيقول : أنا الملك أنا الملك قال : فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر ثم قرأ : { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه } الآية } .

ففي هذه الآية والأحاديث الصحيحة - المفسرة لها المستفيضة التي اتفق أهل العلم على صحتها وتلقيها بالقبول - ما يبين أن السموات والأرض وما بينهما بالنسبة إلى عظمة الله تعالى أصغر من أن تكون مع قبضه لها إلا كالشيء الصغير في يد أحدنا حتى يدحوها كما تدحى الكرة .

قال عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون الإمام نظير مالك - في كلامه المشهور الذي رد فيه على الجهمية ومن خالفها ومن أول كلامه قال - فأما الذي جحد ما وصف الرب من نفسه تعمقا وتكلفا فقد استهوته الشياطين في الأرض حيران فصار يستدل بزعمه على جحد ما وصف الرب وسمى من نفسه بأن قال : لا بد إن كان له كذا من أن يكون له كذا ؛ فعمي عن البين بالخفي فجحد ما سمى الرب من نفسه بصمت الرب عما لم يسم منها فلم يزل يملي له الشيطان حتى جحد قول الله تعالى : { وجوه يومئذ ناضرة } { إلى ربها ناظرة } فقال : لا يراه أحد يوم القيامة ؛ فجحد - والله - أفضل كرامة الله التي أكرم بها أولياءه يوم القيامة ؛ من النظر إلى وجهه ونضرته إياهم { في مقعد صدق عند مليك مقتدر } وقد قضى أنهم لا يموتون فهم بالنظر إليه ينضرون .


إلى أن قال : وإنما جحد رؤية الله يوم القيامة إقامة للحجة الضالة المضلة ؛ لأنه قد عرف أنه إذا تجلى لهم يوم القيامة رأوا منه ما كانوا به قبل ذلك مؤمنين وكان له جاحدا . { وقال المسلمون : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تضارون في رؤية الشمس ليس دونها سحاب ؟ قالوا : لا .


قال : فهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب ؟ قالوا : لا . قال : فإنكم ترون ربكم كذلك } . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا تمتلئ النار حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول قط قط وينزوي بعضها إلى بعض } .


{ وقال لثابت بن قيس : قد ضحك الله مما فعلت بضيفك البارحة } وقال - فيما بلغنا عنه - { إن الله يضحك من أزلكم وقنوطكم وسرعة إجابتكم } . { وقال له رجل من العرب إن ربنا ليضحك ؟ قال : نعم قال لن نعدم من رب يضحك خيرا } .

في أشباه لهذا مما لم نحصه .

وقال تعالى : { وهو السميع البصير } { واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا } وقال : { ولتصنع على عيني } وقال : { ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } وقال : { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون } .

فوالله ما دلهم على عظم ما وصف به نفسه وما تحيط به قبضته إلا صغر نظيرها منهم عندهم إن ذلك الذي ألقي في روعهم ؛ وخلق على معرفته قلوبهم فما وصف الله من نفسه وسماه على لسان رسوله سميناه كما سماه ولم نتكلف منه علم ما سواه لا هذا ولا هذا لا نجحد ما وصف ولا نتكلف معرفة ما لم يصف انتهى .


وإذا كان كذلك فإذا قدر أن المخلوقات كالكرة وهذا قبضه لها ورميه بها وإنما بين لنا من عظمته وصف المخلوقات بالنسبة إليه ما يعقل نظيره منا .


ثم الذي في القرآن والحديث يبين أنه إن شاء قبضها وفعل بها ما ذكر كما يفعل ذلك في يوم القيامة وإن شاء لم يفعل ذلك فهو قادر على أن يقبضها ويدحوها كالكرة وفي ذلك من الإحاطة بها ما لا يخفى وإن شاء لم يفعل ذلك وبكل حال فهو مباين لها ليس بمحايث لها .


ومن المعلوم أن الواحد منا - ولله المثل الأعلى - إذا كان عنده خردلة إن شاء قبضها فأحاطت بها قبضته وإن شاء لم يقبضها بل جعلها تحته فهو في الحالتين مباين لها وسواء قدر أن العرش هو محيط بالمخلوقات - كإحاطة الكرة بما فيها - أو قيل إنه فوقها وليس محيطا بها ؛ كوجه الأرض الذي نحن عليه بالنسبة إلى جوفها وكالقبة بالنسبة إلى ما تحتها أو غير ذلك .

فعلى التقديرين يكون العرش فوق المخلوقات والخالق سبحانه وتعالى فوقه والعبد في توجهه إلى الله يقصد العلو دون التحت وتمام هذا ببيان : المقام الثالث وهو أن نقول : لا يخلو إما أن يكون العرش كرويا كالأفلاك ويكون محيطا بها وإما أن يكون فوقها وليس هو كرويا ؛ فإن كان الأول فمن المعلوم باتفاق من يعلم هذا أن الأفلاك مستديرة كروية الشكل وأن الجهة العليا هي جهة المحيط وهي المحدب وأن الجهة السفلى هو المركز وليس للأفلاك إلا جهتان العلو والسفل فقط .

وأما الجهات الست فهي للحيوان فإن له ست جوانب يؤم جهة فتكون
أمامه ويخلف أخرى فتكون خلفه وجهة تحاذي يمينه وجهة تحاذي شماله وجهة تحاذي رأسه ؛ وجهة تحاذي رجليه وليس لهذه الجهات الست في نفسها صفة لازمة ؛ بل هي بحسب النسبة والإضافة فيكون يمين هذا ما يكون شمال هذا ويكون أمام هذا ما يكون خلف هذا ويكون فوق هذا ما يكون تحت هذا .

لكن جهة العلو والسفل للأفلاك لا تتغير فالمحيط هو العلو والمركز هو السفل مع أن وجه الأرض التي وضعها الله للأنام وأرساها بالجبال هو الذي عليه الناس والبهائم والشجر والنبات والجبال والأنهار الجارية .


فأما الناحية الأخرى من الأرض فالبحر محيط بها وليس هناك شيء من الآدميين وما يتبعهم ولو قدر أن هناك أحدا لكان على ظهر الأرض ولم يكن من في هذه الجهة تحت من في هذه الجهة ولا من في هذه تحت من في هذه كما أن الأفلاك محيطة بالمركز وليس أحد جانبي الفلك تحت الآخر ولا القطب الشمالي تحت الجنوبي ولا بالعكس .


وإن كان الشمالي هو الظاهر لنا فوق الأرض وارتفاعه بحسب بعد الناس عن خط الاستواء فما كان بعده عن خط الاستواء ثلاثين درجة مثلا كان ارتفاع القطب عنده ثلاثين درجة وهو الذي يسمى عرض البلد فكما أن جوانب الأرض المحيطة بها وجوانب الفلك المستديرة ليس بعضها فوق بعض ولا تحته ؛ فكذلك من يكون على الأرض من الحيوان والنبات والأثقال لا يقال إنه تحت أولئك وإنما هذا خيال يتخيله الإنسان وهو تحت إضافي ؛ كما لو كانت نملة تمشي تحت سقف فالسقف فوقها وإن كانت رجلاها تحاذيه .

وكذلك من علق منكوسا فإنه تحت السماء وإن كانت رجلاه تلي السماء وكذلك يتوهم الإنسان إذا كان في أحد جانبي الأرض أو الفلك أن الجانب الآخر تحته وهذا أمر لا يتنازع فيه اثنان ممن يقول إن الأفلاك مستديرة .

واستدارة الأفلاك - كما أنه قول أهل الهيئة والحساب - فهو الذي عليه علماء المسلمين كما ذكره أبو الحسن بن المنادى وأبو محمد بن حزم وأبو الفرج بن الجوزي وغيرهم أنه متفق عليه بين علماء المسلمين وقد قال تعالى : { وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون } . قال ابن عباس : فلكة مثل فلكة المغزل .

و " الفلك في اللغة " هو المستدير .

ومنه قولهم : تفلك ثدي الجارية إذا استدار وكل من يعلم أن الأفلاك مستديرة يعلم أن المحيط هو العالي على المركز من كل جانب ومن توهم أن من يكون في الفلك من ناحية يكون تحته من في الفلك من الناحية الأخرى في نفس الأمر فهو متوهم عندهم .

وإذا كان الأمر كذلك فإذا قدر أن العرش مستدير محيط بالمخلوقات كان هو أعلاها وسقفها - وهو فوقها - مطلقا فلا يتوجه إليه وإلى ما فوقه الإنسان إلا من العلو لا من جهاته الباقية أصلا .


ومن توجه إلى الفلك التاسع أو الثامن أو غيره من الأفلاك من غير جهة العلو كان جاهلا باتفاق العقلاء فكيف بالتوجه إلى العرش أو إلى ما فوقه وغاية ما يقدر أن يكون كروي الشكل والله تعالى محيط بالمخلوقات كلها إحاطة تليق بجلاله ؛ فإن السموات السبع والأرض في يده أصغر من الحمصة في يد أحدنا .


وأما قول القائل : إذا كان كرويا والله من ورائه محيط به بائن عنه فما فائدة : أن العبد يتوجه إلى الله حين دعائه وعبادته ؟ فيقصد العلو دون التحت فلا فرق حينئذ وقت الدعاء بين قصد جهة العلو وغيرها من الجهات التي تحيط بالداعي ومع هذا نجد في قلوبنا قصدا يطلب العلو لا يلتفت يمنة ولا يسرة فأخبرونا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا وقد فطرنا عليها .


فيقال له : هذا السؤال إنما ورد لتوهم المتوهم أن نصف الفلك يكون تحت الأرض وتحت ما على وجه الأرض من الآدميين والبهائم وهذا غلط عظيم ؛ فلو كان الفلك تحت الأرض من جهة لكان تحتها من كل جهة فكان يلزم أن يكون الفلك تحت الأرض مطلقا وهذا قلب للحقائق ؛ إذ الفلك هو فوق الأرض مطلقا . و " أهل الهيئة " يقولون : لو أن الأرض مخروقة إلى ناحية أرجلنا وألقي في الخرق شيء ثقيل - كالحجر ونحوه - لكان ينتهي إلى المركز حتى لو ألقي من تلك الناحية حجر آخر لالتقيا جميعا في المركز ولو قدر أن إنسانين التقيا في المركز بدل الحجرين لالتقت رجلاهما ولم يكن أحدهما تحت صاحبه ؛ بل كلاهما فوق المركز وكلاهما تحت الفلك ؛ كالمشرق والمغرب فإنه لو قدر أن رجلا بالمشرق في السماء أو الأرض ورجلا بالمغرب في السماء أو الأرض : لم يكن أحدهما تحت الآخر وسواء كان رأسه أو رجلاه أو بطنه أو ظهره أو جانبه مما يلي السماء أو مما يلي الأرض وإذا كان مطلوب أحدهما ما فوق الفلك لم يطلبه إلا من الجهة العليا ؛ لم يطلبه من جهة رجليه أو يمينه أو يساره لوجهين : ( أحدهما أن مطلوبه من الجهة العليا أقرب إليه من جميع الجهات ؛ فلو قدر رجل أو ملك يصعد إلى السماء أو إلى ما فوق : كان صعوده مما يلي رأسه أقرب إذا أمكنه ذلك ولا يقول عاقل إنه يخرق الأرض ثم يصعد من تلك الناحية ولا أنه يذهب يمينا أو شمالا أو أماما أو خلفا إلى حيث أمكن من الأرض ثم يصعد لأنه أي مكان ذهب إليه كان بمنزلة مكانه أو هو دونه وكان الفلك فوقه فيكون ذهابه إلى الجهات الخمس تطويلا وتعبا من غير فائدة .

ولو أن رجلا أراد أن يخاطب الشمس والقمر فإنه لا يخاطبه إلا من الجهة العليا مع أن الشمس والقمر قد تشرق وقد تغرب ؛ فتنحرف عن سمت الرأس فكيف بمن هو فوق كل شيء دائما لا يأفل ولا يغيب سبحانه وتعالى ؟ .

وكما أن الحركة كحركة الحجر تطلب مركزها بأقصر طريق - وهو الخط المستقيم - فالطلب الإرادي الذي يقوم بقلوب العباد كيف يعدل عن الصراط المستقيم القريب إلى طريق منحرف طويل .


والله تعالى فطر عباده على الصحة والاستقامة إلا من اجتالته الشياطين فأخرجته عن فطرته التي فطر عليها .


( الوجه الثاني : أنه إذا قصد السفل بلا علو كان ينتهي قصده إلى المركز وإن قصده أمامه أو وراءه أو يمينه أو يساره ؛ من غير قصد العلو كان منتهى قصده أجزاء الهواء فلا بد له من قصد العلو ضرورة سواء قصد مع ذلك هذه الجهات أو لم يقصدها . ولو فرض أنه قال : أقصده من اليمين مع العلو أو من السفل مع العلو : كان هذا بمنزلة من يقول : أريد أن أحج من المغرب فأذهب إلى خراسان ثم أذهب إلى مكة ؛ بل بمنزلة من يقول أصعد إلى الأفلاك فأنزل في الأرض ثم أصعد إلى الفلك من الناحية الأخرى ؛ فهذا وإن كان ممكنا في المقدور لكنه مستحيل من جهة امتناع إرادة القاصد له ؛ وهو مخالف للفطرة فإن القاصد يطلب مقصوده بأقرب طريق لا سيما إذا كان مقصوده معبوده الذي يعبده ويتوكل عليه وإذا توجه إليه على غير الصراط المستقيم كان سيره منكوسا معكوسا .

و " أيضا " : فإن هذا يجمع في سيره وقصده بين النفي والإثبات بين أن يتقرب إلى المقصود ويتباعد عنه ؛ ويريده وينفر عنه فإنه إذا توجه إليه من الوجه الذي هو عنه أبعد وأقصى وعدل عن الوجه الأقرب الأدنى كان جامعا بين قصدين متناقضين ؛ فلا يكون قصده له تاما ؛ إذ القصد التام ينفي نقيضه وضده .


وهذا معلوم بالفطرة . فإن الشخص إذا كان يحب النبي صلى الله عليه وسلم محبة تامة ويقصده أو يحب غيره ممن يحب - سواء كانت محبته محمودة أو مذمومة - متى كانت المحبة تامة وطلب المحبوب طلبه من أقرب طريق يصل إليه ؛ بخلاف ما إذا كانت المحبة مترددة : مثل أن يحب ما تكره محبته في الدين فتبقى شهوته تدعوه إلى قصده وعقله ينهاه عن ذلك ؛ فتراه يقصده من طريق بعيد كما تقول العامة : رجل إلى قدام ورجل إلى خلف .

وكذلك إذا كان في دينه نقص وعقله يأمره بقصد المسجد أو الجهاد أو غير ذلك من القصودات التي تحب في الدين وتكرهها النفس ؛ فإنه يبقى قاصدا لذلك من طريق بعيد متباطئا في السير وهذا كله معلوم بالفطرة .

وكذلك إذا لم يكن القاصد يريد الذهاب بنفسه ؛ بل يريد خطاب المقصود ودعاءه ونحو ذلك فإنه يخاطبه من أقرب جهة يسمع دعاءه منها وينال به مقصوده إذا كان القصد تاما .

ولو كان رجل في مكان عال وآخر يناديه ؛ لتوجه إليه وناداه ولو حط رأسه في بئر وناداه بحيث يسمع صوته لكان هذا ممكنا ؛ لكن ليس في الفطرة أن يفعل ذلك من يكون قصده إسماعه من غير مصلحة راجحة ؛ ولا يفعل نحو ذلك إلا عند ضعف القصد ونحوه
انتهى والله اعلم .

الكاتب: سائل
التاريخ: 13/12/2006